12 مليون يورو.. (غير مفسرة) من كلفة مستوردات القمح!
تعتمد سورية على استيراد حاجاتها الرئيسية من القمح الطري لصناعة الخبز منذ تراجع إنتاجها واستلام الجزء أقل عاماً بعد عام من المنتجين، أعلنت المؤسسة العامة للتجارة الخارجية عن استيراد 200 ألف طن من القمح خلال مدة أربعة أشهر عبر الخط الائتماني الإيراني، ومع كل عملية استيراد للقمح يظهر ما يثير التساؤلات حول كلفته الكبيرة..
تتجه أسعار القمح عالمياً، نحو الانخفاض شأنها شأن مختلف أسعار المواد والسلع الأولية عالمياً، التي يعتبر انخفاض سعرها سِمَة عامة للتجارة الدولية في عام 2015، حيث شهدت أسعار المواد الأولية الزراعية في التجارة العالمية انخفاضاً بمقدار 16.6% وأسعار القمح تحديداً انخفضت بمقدار 12%، من 188 يورو في 2-2015، إلى 166 يورو في 2-2016.
العقوبات ترفع أسعار المستوردات.. ولكن!
إلا أن هذا الاتجاه لا ينعكس تأثيره بشكل فعلي، على أسعار المواد الأولية المستوردة في السوق السورية، ابتداءً من النفط، وصولاً إلى المواد الغذائية الرئيسية المستوردة، مثل القمح والأرز، والسكر وغيرها. الحكومة تجد مبرراً موضوعياً لذلك، فسورية محاصرة، والعقوبات الغربية تفرض عليها صعوبات كبيرة في تأمين المواد الرئيسية، تزيد من كلف الشحن والتأمين وترفع من سعر الطن المستورد من أية مادة، فعلى السوريين أن يدفعوا للمستوردين كلفة المخاطر التي يتحملونها في توريد حاجات رئيسية لبلاد محاصرة، وفق ما قاله رئيس مجلس الوزراء في اجتماعه مع الصحفيين بتاريخ 2-2-2016.
وفي هذا القول شيء من الصحة، إلا أن الملفت أن هذه الكلف ترفع من سعر الطن بنسب متفاوتة جداً، وتبلغ نسب قياسية من سعر الطن، وفي مرات استيراد أخرى، تصبح هذه التكاليف هامشية، والأسعار قريبة من سعر التكلفة، وهذه الحالات المتباينة، مترافقة مع حرص الحكومة على عدم التصريح عن الكلف الثابتة للتأمين والنقل وأثرها على سعر الطن، ومجمل ما سبق يدفعنا لنثير تساؤلات حول كلف عمليات الاستيراد.
63 يورو للطن زيادة على سعر التصدير!
فعلى سبيل المثال استوردت الحكومة حوالي 58 ألف طن من القمح، عبر الخط الائتماني الإيراني، الذي يتيح فتح اعتمادات في المصرف التجاري السوري، تستورد الحكومة من خلالها، بقرار من اللجنة الاقتصادية، وكانت كلفتها الإجمالية 14 مليون يورو، وهو ما يعني أن وسطي سعر الطن هو تقريباً 240 يورو، ولتقدير حجم هذا الرقم الوسطي، علينا أن نراقب السعر الوسطي العالمي خلال هذه الفترة الممتدة بين 8-2015 و 1-2016، حيث كان أعلى سعر عالمي لتصدير طن القمح الطري 183 يورو في شهر 10-2015. أي أن سعر الاستيراد الوسطي أعلى من السعر العالمي بمقدار60 يورو تقريباً.
أما إذا ما راقبنا أسعار تصدير إيران للقمح الطري خلال هذه الفترة، فإنها قد صدرت بسعر 178 يورو في شهر 10- 2016، وهو أعلى سعر سجلته الصادرات العالمية الإيرانية من القمح الطري خلال فترة 6 أشهر التي تم الاستيراد السوري فيها، ما يعني أن الكميات المستوردة مجملها من إيران، تفوق سعر التصدير الإيراني الأعلى بمقدار 63 يورو، وأكثر من ذلك في الأشهر التي انخفض فيها سعر التصدير الإيراني إلى 164 يورو كشهر 8-2015.
72% من السعر العالمي كلفة إضافية!
المفارقات تظهر في الصفقات الصغيرة، فعلى سبيل المثال تم استيراد حوالي 16,6 ألف طن قمح طري، بمبلغ 5,1 مليون يورو، في شهر 10-2015، أي سعر الطن يصل إلى 307 يورو للطن!، بينما كان سعر تصدير الطن الإيراني 178 يورو فقط، وفق بيانات التجارة الدولية المأخوذة من البنك الدولي.
أي أن أكثر من 129 يورو كلفة إضافية على الطن، تشكل نسبة 72% من السعر العالمي، وهي التي تبلغ على كمية 16,6 ألف طن مقدار: 2 مليون يورو إضافية، فما تفسير هذه الكلف الإضافية هل هي بمجملها كلف شحن وتأمين، أم أنها تضخيم كلف لغايات أخرى ؟!
مقارنات.. مع مستوردات شركة نقل القمح السوري!
الملفت أن الملف الذي فتحته إحدى الصحف المحلية في شهر 11- 2015، حول استيراد 200 ألف طن قمح، يقول بأن سعر الاستيراد في حينه كان: 190 يورو للطن، وكانت أسعار العروض الأخرى المقدمة للجهة الحكومية المستوردة، قريبة جداً من هذا السعر، أما السعر العالمي في حينه كان 183 يورو! أي أن كلف النقل والشحن، لم تتعدى 7 يورو للطن، ونسبة 3% من السعر العالمي. ما يدل على أن التجار قادرين على تأمين القمح بسعر قريب من السعر العالمي، وبتكاليف هامشية للتأمين والنقل، فما الذي يفسر أسعار الاستيراد من الخط الائتماني الإيراني التي ترتفع عن السعر العالمي بنسبة تتراوح بين: 33-72% من سعر تصدير الطن!
فساد: إما في الصفقة الأولى أو الثانية!
وبناء على السابق نستطيع القول أنه إما أسعار الاستيراد الحكومي الأخيرة مضخمة، والفوارق لا تفسر بتكاليف التأمين والشحن، بالتالي ينبغي على الحكومة أن تفسرها وتوضح أرقامها، أو أن صفقة الاستيراد السابقة الذكر بسعر 190 يورو للطن، يصح عليها ما قيل عنها، بأنها من القمح السوري وليس من القمح المصدر!
حيث كانت المعلومات تقول في حينه بأن الشركة التي اعتمدتها الحكومة، لنقل واستجرار القمح من المناطق الشرقية، وإيصاله إلى المناطق الآمنة، والتي أخذت على الطن الواصل 89 ألف ل.س (61 لسعر القمح و 28 لكلفة النقل)، والذي لم يصل منه سوى 174 ألف طن للحكومة فقط، والباقي عوضت الشركة جزءاً منه، والآخر بقي مجهول المصير، والنقطة اللافتة في حينها، والتي كانت موضع اتهام الحكومة، بأن هذه الشركة ذاتها رسا عليها عقد توريد القمح بمقدار 200 ألف طن، وبسعر 190 يورو للطن، وهو الذي يقارب السعر العالمي، ويتضمن زيادة 7 يورو عنه فقط، ما أتاح توجيه التساؤلات في حينه، بأن هذا القمح (المورد) من الشركة، هو القمح السوري المستجر من المناطق غير الآمنة!.
وعليه نستطيع القول، بأنه إما القمح المستجر وفق اعتمادات الخط الائتماني، مضخم التكلفة، وتكلفته الزائدة عن السعر العالمي غير مبررة، لأنها قد تبلغ إذا كانت الكميات المستوردة 200 ألف طن: 12 مليون يورو بالحد الأدنى (60 يورو فوق السعر العالمي)، أو أن تكاليف استيراد القمح والشحن والتأمين تصل فعلاً إلى هذا الحد، مما يجعل التساؤل مشروعاً حول مصدر القمح الذي استوردته الشركة التي نقلت جزءاً من القمح السوري من المناطق الشرقية، بسعر 190 يورو، وبتكلفة 7 يورو شحن وتأمين!.
تأمين الحاجات الأساسية.. للفساد!
الحكومة تقول بأن تأمين المواد الرئيسية وحاجات البلاد هو الهدف الأول لسياستها الاقتصادية، إلا أنه علينا بأن نلفت الانتباه بأن النموذج الاقتصادي السوري، الذي بلغت حصة الفساد فيه 50% في القطاع الحكومي كما تشير دراسات اقتصادية سورية، لم يتغير خلال الأزمة، بل تفاقم، وأصبحت الأموال المخصصة لتأمين الحاجات الرئيسية، هي مصدر النهب الرئيسي، على اعتبارها ضرورة وتخصص لها غالبية الإنفاق الحكومي. وحيث تتواجد النسبة الكبرى من المخصصات والموارد، يزداد تمركز قوى الفساد الكبرى، ويمكن لهذا أن يفسر الإقالات المتكررة والناجمة عن ممارسات من الصعب تغطيتها في مؤسسة الحبوب، ووزارة التجارة الداخلية وغيرها من الجهات الثانوية المرتبطة بهذا الملف، الذي يعتبر من مهمات وصلاحيات اللجنة الاقتصادية، أعلى الجهات الحكومية المشرفة في المرحلة الحالية على «سياسية تأمين الحاجات الأساسية»..