نهاية الخطة الخمسية 11: سياسات دعم التضخم قبيل كارثة ما بعد الأزمة!

نهاية الخطة الخمسية 11: سياسات دعم التضخم قبيل كارثة ما بعد الأزمة!

تعد السياستان المالية والنقدية، الأداتين الرئيسيتين لتنفيذ السياسات الاقتصادية التي  تتبناها الحكومة. وفيما لو رصدنا أهم ما حرّر فيهما اليوم، وفي إطار الخطة الخمسية 11 التي تنتهي بنهاية العام الحالي، سنتبين تماماً مصلحة من تخدم تلك السياسات التي يتناغم دور كل من الحكومة والمصرف المركزي في تنفيذها، حيث يبدو هذا التناغم الاستثنائي ضرورياً في ظل الأزمة لهيكلة الاقتصاد تمهيداً لمرحلة لاحقة، رغم أن الجزء الغالب من هذه السياسات صيغ في مراحل ما قبل الأزمة، وتفعّلت بشكل أكبر خلالها، بحجج الحرب وغيرها.

 

لم نجد ما هو معلن حول السياسات النقدية للمرحلة المقبلة، لكن ما صيغ حول المرحلة السابقة في ظل الأزمة، معلنٌ على صفحات المصرف المركزي في الإنترنت، تحت بند سياسات الخطة الخمسية الحادية عشرة، التي تشمل الأعوام (2011-2015)، والتي استمر العمل فيها فعلياً، رغم أن انفجار الأزمة كان يفترض تعديلها. 

الليرة خسرت 88% من قيمتها!

الثابت حتى اليوم أن الركائز الأساسية لتلك السياسة طُبّقت بإخلاص ومنها:

الاستمرار في تضمين كل عمليات القطع الأجنبي داخل السوق الرسمية.

استكمال إلغاء ما تبقى من أنظمة الرقابة على النقد والعمل على إصدار دليل ينظم جميع التعاملات بالقطع الأجنبي. 

حيث يمثل هذان البندان مرحلة تحرير قطاع الصرافة، الذي شرعن التجارة بالعملات الأجنبية، ولا سيما الدولار، الذي كان الأداة الرئيسية في المضاربة على الليرة السورية حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

الاستمرار بالتحرير التدريجي والمضبوط للحساب الرأسمالي من ميزان المدفوعات. 

وهذا البند سمح وما يزال بخروج أرباح ورساميل تقدر بمئات المليارات من الاقتصاد السوري إلى دول مجاورة، مستفيدة من البندين السابقين بالقدرة على التحويل من ليرة إلى دولار، ثم الهروب إلى الاقتصادات الأخرى تاركة الاقتصاد السوري ينزف والليرة السورية تهتز باستمرار.

مما لا شك فيه أن باقي البنود المستهدفة في السياسة النقدية، والتي لا قدرة على تنفيذها في ظل الأزمة لاعتبارات شتى، ليست ملحة مثل البنود التي استعرضناها. بالمحصلة ما لا يستطيع المركزي إنكاره اليوم، هو خسارة الليرة السورية لـ 88% من قيمتها خلال السنوات الخمس تلك، وهي إحدى النتائج الفعلية لهذه السياسة، التي لم يراجعها المركزي أو أحد من واضعي تلك السياسات في ظل الأزمة، فهل يعقل أن تمر مثل تلك الظروف دونما أي مراجعة! 

إن ذلك يعني بكل بساطة قبول المركزي ضمناً مستويات التضخم التي وصلت لها الليرة، ولربما يكون ذلك هو رقم التضخم المستهدف كأحد أهداف المركزي، ولا سيما أن المركزي عبر عن ذلك، وإن بشكل خجول، عدة مرات بالتلميح إلى ضرورة (أن تأخذ الليرة قيمتها الطبيعية في ظل تدهور الإنتاج الذي لا يتحمل مسؤوليته المركزي)!.

الموازنة في خدمة التضخم وحسب!

بالتوازي مع ذلك تجيء السياسة المالية التي تمثلها بشكل واضح موازنات الحكومة في السنوات الخمس المنصرمة، حيث يستطيع أي مراقب أن يستشف من أرقامها ثلاثة اتجاهات رئيسية:

التراجع عن الإنتاج: وهو موضح بالأرقام الفعلية لقيم الإنفاق العام الاستثماري، خاصة في ظل تراجع قيمة الليرة، فلم يشكل وسطي ذلك الإنفاق أكثر من 25%، أي ربع كل موازنة في كل سنة من السنوات الخمس، وهذا نظرياً، أما المنفذ فهو غير معلوم.

تثبيت كتلة الأجور: فمن حيث القيمة الاسمية، زادت الأجور بنسبة ضئيلة بمعدل140% خلال السنوات الخمس الماضية، بينما ارتفعت مستويات المعيشة المعترف بها رسمياً بمعدل 430%، أي أكثر من ثلاثة أضعاف كل زيادات الأجور، أي أن القيمة الحقيقية للأجور كانت في انخفاض مستمر. 

التمويل بالعجز: حيث لم تسع الحكومة إلى تمويل نفقاتها إلا من مصادر تضخمية، فلم ترفع ضريبة الأرباح أو تزد مستويات التحصيل، واكتفت بالتمويل بالعجز الذي يعني طباعة عملة دون تغطية بغالبه، أو عبر زيادة إيراداتها من فروق الأسعار الناجمة عن رفع أسعار خدماتها، أو من ضرائبها المضمونة التحصيل، وهي المفروضة بأغلبها على الطبقة العاملة،  ولم تسع مطلقاً إلى فرض ضرائب جديدة على الثروة وأصحاب الرساميل متذرعة بتراجع النشاط الاقتصادي العام، فبلغت العجوزات مستويات مهولة، حيث يتراوح عجز موازنة 2016 بين (30% من الموازنة و50% منها فيما لو أضفنا ادعاء الحكومة حول وجود نفقات دعم خارج بنود الموازنة)، وإن مجموع العجوزات التي تتراكم على شكل دين عام في السنوات (2011-2016) بلغت 160%، من آخر تقدير للناتج المحلي الإجمالي في في عام 2013 الذي قدر في حينه بـ1939 مليار ليرة.   

إن أقل ما يمكن قوله عن السياسة المالية إنها سياسة مغذية للتضخم، فهي تبتعد عن الإنتاج وتنحو لتأمين أي مال حتى لو كان ذلك المال سيعقد المشاكل الاقتصادية بدل حلها، حيث تدعي الحكومة أن الأولوية للاستمرار في دفع الرواتب، وفي تأمين المواد بأسعار مناسبة، وفي الاستمرار بتقديم خدمات الصحة والتعليم، وتأمين مستلزمات الصمود للمواجهة، متجاهلة أن البحث عن تمويل ذلك من مصادر تضخمية هو انقلاب على كل ذلك، رغم أنها قادرة على تأمينه من مصادر فعلية تزيد الإنتاج وتقلل التضخم، فعن أي رواتب ومواد بأسعار مناسبة تتحدث في ظل ارتفاع أسعار يبلغ 430% عن عام 2010 فقط!!

لا يمكن تفسير استمرار الحكومة والمصرف المركزي بسياسات الخطة الخمسية (11) التي بنيت استكمالاً لما قبلها، الخطة الخمسية العاشرة التي ثبت فشلها قبل الأزمة، رغم أنها تزيد من وطأة الحرب على الشعب والدولة، إلا من خلال فهم الدور الوظيفي لتلك السياسات في خدمة المستثمر، حيث يسعى واضعوها لتعبيد كل الطرق لدوره اللاحق!

 

فاتورة المستقبل.. أقل التكاليف على أصحاب الأرباح!

طبعاً قد يبدو الأمر حتى هذا التوصيف أمراً بديهياً في ظل الأزمة والحرب، ولكن التناغم بين السياسة المالية والنقدية أوصل مستويات ارتفاع الأسعار والتضخم إلى حد خطر يسمح  بتكييف الاقتصاد السوري بشكل نهائي لمصلحة قوى رأس المال سواء المحلية أو الأجنبية المتربصة لاقتسام كعكة ما بعد الحرب. 

إن نتيجة هذه السياسات تعني انخفاض تكاليف الاستثمار اللاحق على قوى رأس المال وهوامش ربح عالية ومضمونة بسهولة، حيث تشكل الأجور المتدنية التي انخفضت فعلياً من (239 دولار وسطياً، عشية الأزمة، إلى 68 دولار اليوم) أهم محددات الاستثمار اللاحق في اقتصادنا الوطني على حساب بؤس الطبقة العاملة وأصحاب الأجور.

أما الانعكاس الخطير الثاني، فهو على رساميل الدولة وأصولها المختلفة، والتي تعدها الحكومة للاستثمار بقوانين التشاركية، وربما للبيع أو الخصخصة كما حصل مع عقود الاتصالات. حيث تغدو أصول القطاع العام المختلفة (المالية المتراكمة في المصارف على شكل ودائع، والإنتاجية المتمثلة بمنشآت ومعامل القطاع العام الخدمية والإنتاجية) بين سندان قانون التشاركية ومطرقة السياسات المالية والنقدية التي خفضت قيمة تلك الأصول مقيمة بالليرة السورية. وسيكون السؤال الذي لا مفر منه لاحقاً: هل سنقيم أصولنا بالدولار كي لا تذهب هباءً، أم سنتركها مقيمة بالليرة السورية المتراجعة القيمة؟!. وفي كلا الحالتين ستكون الإجابة هي التفريط بالأصول الوطنية التي راكمناها من تعب السوريين لعقود.

على التوازي من ذلك تكدّس آلية التضخم مزيداً من الأرباح بيد أصحاب الرساميل، فالتضخم يزيد من قيمة أصولهم الحقيقية أوتوماتيكياً كما أن تقييم رساميلهم بالدولار والسماح لتحويل أرباحهم إلى دولار، وإخراجها من دورة الاقتصاد السوري يحميها ويضعها في أمان تام في هذه المرحلة، تمهيداً للانقضاض لاحقاً، حيث ستسمح أرباحهم الدولارية بالسيطرة على اقتصادنا وبثمن بخس.