عاصفة الدولار..  بين شرارة الليرة التركية وطواحين كبار الفاسدين

عاصفة الدولار.. بين شرارة الليرة التركية وطواحين كبار الفاسدين

تستمر عاصفة الدولار منذ الأسبوع الأخير في تشرين الأول، وحتى وصل سعر الدولار إلى رقم قياسي بلغ 372 ليرة/$ مساء يوم الأربعاء 4/11/2015، إلى أن بادر المصرف المركزي، الذي وقف متفرجاً مع الحكومة خلال الفترة، بالتدخل بالآليات السابقة ذاتها، والتي هي جزء من المشكلة أصلاً وأعلن عن ضخ مزيد من الدولار، وبسعر 365 ل.س/$ رافعاً سعر التدخل الرسمي إلى مستوى قياسي جديد فعلياً!

ومما يلاحظ حتى اللحظة فيما يخص الأسبوعين الأخيرين هو بروز عوامل جديدة نسبياً، سياسية واقتصادية أطلقت شرارة ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء، والتي بدورها ضغطت بشكل كبير على السعر الرسمي الذي سرعان ما امتثل لها برفع سعره. ولا يمكن تفسير التراجع الكبير في سعر الليرة السورية إلا من خلال رصد المستجدات، وأهمها:

عرقلة الحل .. 

حماية لمستقبل الفاسدين

ظهور ملامح واحتمالات حل سياسي قريب للأزمة السورية، وهو ما يهدد وضع كبار الفاسدين المتخوّفين من أي حل قريب للأزمة، ما يضع أمامهم مهمتين: الأولى دفع الأمور للانهيار السريع في العملة لزيادة مستوى الهيمنة على ثروات السوريين وتأمين مستقبلهم اللاحق، والثانية وهي أن قوى الفساد والتطرف تعمل على تعقيد أمور ما بعد إنجاز الحل السياسي سعياً لاستعادة مواقعها المهددة اليوم إذا ما انهارت عبر تعقيد مشكلات حكومة الحل السياسي. والملاحظ هنا أنّ هذه العملية تكررت مراراً في كل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي عصفت ببلدان أخرى، ففي حالة لبنان مثلاً شهدت سنوات حل الأزمة اللبنانية اللاحقة للحرب الأهلية، مستويات انهيار للعملة أكبر من مستويات الانهيار خلال الأزمة ذاتها.

استبدال الأرباح

عطفاً على السبب السابق، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن الأزمة السورية لا تزال في بدايات ملامح صياغة حل، فهذا يعني أنه ليس بالضرورة أن تقف هذه الموجة عند ذلك بل هي مرحلة أولية في إطار سعي العديد من القوى المناهضة للحل بتأمين مستقبلها بمزيد من الثروات. وبالتالي فإن هؤلاء الفاسدين وبالتشارك بشكل أو بآخر مع كبار صيارفة السوق السوداء، ومن يسهل لهم ذلك، مضطرون لاستبدال أرباحهم المتراكمة بالليرة السورية إلى دولار بأقصى سرعة ممكنة، وهو ما سيرفع مستوى الطلب على الدولار مؤدياً لارتفاع سعره.

الليرة التركية.. من سمح لها؟!

بالتوزاي مع ذلك لوحظ أن ارتفاع سعر الدولار في السوق السورية جاء بالتوازي مع ارتفاع وتحسن سعر الليرة التركية أمام الدولار عشية الانتخابات التركية. وهو ما يوحي بروابط معينة قد تكون غير ظاهرة للعيان ولكن من الممكن توضيح ما يلي:

الارتفاع في سعر الليرة التركية، أدى إلى زيادة الطلب على الدولار في السوق السورية. وذلك لأن التجار السوريين المستوردين للبضاعة التركية صاروا مضطرين لكمٍّ أكبر من الدولار لاستيراد الكميات ذاتها المسعرة بالليرة التركية المرتفعة عن السابق، وهو ما شكل طلباً إضافياً على الدولار في هذه اللحظة. ويلاحظ زيادة حصة البضاعة التركية في سورية سواء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أو الخارجة عن السيطرة. 

صراع هوامير المال! 

لوحظ في الفترة الأخيرة، وبناء على أخبار رصدتها قاسيون في سوق الصرافة، تصاعد حدة الصراع بين عدد من الصيارفة الكبار، أدى إلى إغلاق شركات محددة. إن ذلك يفتح الباب على العديد من التساؤلات أهمها: البحث بطبيعة هذه الخلافات وعلاقتها بتأمين الدولار من المركزي وبيعه في السوق النظامية من جهة، وعلاقتها بالسوق السوداء من جهة أخرى، بالإضافة إلى أنه يفتح على تساؤلات هامة حول كيفية تعويض الدولار الذي يباع من المركزي لهذه الشركات.

آليات التدخل جزء من المشكلة.. لماذا؟!

إن تلك العوامل التي رصدتها قاسيون هي أبرز العوامل المستجدة والمؤثرة على وضع الليرة السورية في الأسابيع الأخيرة، مع الآخذ بعين الاعتبار استمرار المصرف المركزي بتنفيذ الآليات ذاتها التي تسمح بالمضاربة ومزيد من ضخ الدولار للصيارفة دون جدوى، أو الإحجام عن التدخل بأشكاله كافة ما يزيد المشكلة سوءاَ، لا بل المساهمة في رفعه أيضاً من خلال التدخل بالسعر الرسمي بمستوى أعلى من سابقه كل مرة، ما حدا بالبعض للتكهن حول دوافع المركزي تلك، والتي يعتقد أن اعتمادها من الحكومة وبالتنسيق مع المركزي قائم على اتفاق على سعر دولار محدد مرتفع نسبياً، وذلك لضبط الموازنة الحكومية للعام القادم 2016عند أسعار تناسب أحاديثها المتكررة عن ارتفاع إنفاقها واستمرارها بالدعم وتخفيض عجزها الفعلي لا الإسمي. 

ويتوزاى ذلك مع تنفيذ الحكومة لسياسات تسمح باكتناز مزيد من الأرباح وإخراجها من سورية بسلاسة، وتحرير لقطاع التجارة دون ضوابط جدية، أثر مباشرة على العملة الوطنية أحد رموز السيادة المهدورة.

ضريبة عقد العسل التركي..  واستمرار السياسات كرمى للتجار

لتبيان أثر ارتفاع الليرة التركية أمام الدولار، على الليرة السورية يكفي أن نوضح معدلات ارتفاعها المتوازية مع انخفاض قيمة الليرة السورية (أي ارتفاع الدولار في السوق السورية)، وسنشير إلى تطور العلاقات التجارية السورية – التركية قبل الأزمة ولاحقاً أثنائها:

نلاحظ أنه وفي يوم 30 أيلول الفائت تحسنت الليرة التركية بمعدل 4% (منتقلة من 3,03 تقريباً إلى 2,89 أمام الدولار) علماً أن الليرة التركية تحسنت 6% خلال شهر تقريباً من 20 أيلول وحتى 23 تشرين الأول، وهو ما أطلق الشرارة الأولى لارتفاع الليرة السورية التي انتقلت من 334 في30 أيلول إلى 341 ليرة/$ في 24/10، ثم سرعان ما بلغت 353 ليرة/$ في 28/10 لتستقر بعدها خلال يومين عند 350 ليرة/$. 

ونام اقتصاديونا عن السيادة!

لاحقاً، جاءت الانتخابات التركية وصدقت التوقعات بأثرها الإيجابي على تحسن عملتهم الذي كان من المفترض أن بتنبه اقتصاديونا إلى أثر ذلك على تراجع الليرة السورية بحكم تزايد الترابط بين العملتين ولا سيما في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة وهنا بدأت الشرارة الثانية لتراجع الليرة السورية فارتفعت الليرة التركية بمعدل 5% تقريباً خلال 4 أيام (ففي 30 تشرين الأول كانت  بـ 2,92، وحتى 2 تشرين الثاني بـ 2,78 للدولار)، وهو ما يتوزاى تقريباً مع التراجع الثاني الذي نقل الليرة السورية من 350 إلى 368 ل.س/$ خلال المدة ذاتها، علماً أن الأمور تدحرجت بشكل كبير حتى أغلق سعر الدولار عند 379 ليرة بتاريخ 3/11، قبل أن تعلن الحكومة والمركزي عن تدخل أعاد سعره إلى 365 ليرة!

 إذا أردنا أن نجمل مستوى تحسن الليرة التركية منذ 20 أيلول الماضي حتى 2/11 2015، سنجد أنها قد تحسنت بمعدل 9% في الوقت الذي تراجعت الليرة السورية بمعدل 11%. ومن المعروف أنه لا أثر مباشراً بينهما إلا من خلال العلاقة التجارية بين البلدين التي وضحنا آلية عملها سابقاً، والتي لم تسعَ الحكومة جدياً للتخفيف من وطئتها بل بالعكس زادت الاعتماد على المستورادت التركية بشكل كبير خلال فترة الأزمة، ناهيك عن اعتماد المركزي آلية السماح ببيع الدولار دون قيود ما يسمح بالنزيف من كل الجغرافية السورية.

أطلال التجارة الحرة!

لقد بلغ حجم مستورداتنا من تركيا عشية الأزمة 1,7 مليار دولار، وهو ما يعادل 10% من وراداتنا جاعلة منها أكبر شريك تجاري لسورية، متفوقة على الصين وروسيا وإيران، والسعودية الشريك العربي الأكبر، بالمقابل لم تشكل صادراتنا لتركيا أكثر من 0,4% من مستورداتهم في تلك الفترة! 

ومن المعروف أنه خلال الأزمة زاد اعتماد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة على المستوردات التركية بشكل كبير ما يعني زيادة هذه النسبة، وحتى في المناطق التي لا تزال تحت السيطرة، فقد توسع الاستيراد من تركيا لتعويض الحصار الأوربي، فلم تشأ السياسات الحكومية القطيعة النهائية مع الأتراك تجارياً واستبدالها بعلاقات جدية مع حلفائها كالصين وروسيا وإيران.

واكتفت الحكومة بقرارين اثنين أولهما في 2011 رفع الرسوم على البضاعة التركية بنسبة 30% وأنهى اتفاقية التجارة الحرة معها، وأعيد التأكيد عليه في عام 2014، والثاني منع القطاع العام والمشترك فقط من استيراد البضاعة التركية، واستثني القطاع الخاص من هذا القرار، علماً أن حجم علاقات القطاع الخاص السوري مع الاقتصاد التركي أعلى بكثير من حجم التعامل مع باقي القطاعات، وهو ما يشير إلى عدم جدية السياسات الحكومية في التصدي ومعالجة آثار العلاقات التجارية السورية التي سنتها السياسات الليبرالية منذ عقد من الزمن تقريباً.