البورصة والأزمة..أداة سرقة القيمة المنتجة مجدداً

البورصة والأزمة..أداة سرقة القيمة المنتجة مجدداً

يشهد الاقتصاد العالمي أزمة اقتصادية عميقة، بدأ ظهورها منذ عام 2008 وتستمر بالتعمق، والتجلي بأشكال مختلفة، آخرها ما انكشف على الشاشات الكبرى المضيئة للأسواق المالية العالمية الكبرى، في تراجع البورصات العالمية الأخير.

فما هي البورصة بالعمق، وما علاقتها بعمليات الإنتاج وما علاقتها بتوزيع الربح عبر العالم، وبالأزمة الاقتصادية العميقة اليوم للمنظومة الرأسمالية.

البورصة كانعكاس للإنتاج

البورصة هي تجمع لرؤوس الأموال الكبرى، على شكل أسهم، حيث يتم بيع وشراء أسهم الشركات، أي المساهمة في رأس مالها، لتحصل الشركات الكبرى على رؤوس أموال إضافية، من الآخرين بطريقة سريعة، توسع بها إنتاجها وحجمها في السوق.

ثم على الشركات أن تذهب لتستثمر وتنتج برؤوس الأموال هذه، ليتم استهلاك إنتاجها، أي بيعه، وتحقيق الأرباح، ثم لتوزع بالنهاية حصص من الربح لمن ساهم معها.

تكثف البورصة كل الإنتاج العالمي في اللحظة الراهنة، فكل مراكز الإنتاج الكبرى، والشركات العالمية الضخمة، تعكس ثرواتها وأعمالها وأرباحها، في هذه الأسواق من خلال أسهمها، حيث تتحدد قيمة سهم الشركة بمقدار ما تقدمه من أرباح لمشتري أسهمها، ليترفع سعر هذه الأسهم نتيجة الطلب المرتفع عليها وتحقق الشركات الكبرى زيادة مجانية في رأس مالها.

كتلة المال والمضاربة

ولكن إلى جانب كبار المنتجين العالميين بمستوياتهم، يتواجد في البورصات، كبار الشركات المالية العالمية من مصارف وشركات استثمار، وشركات تأمين وشركات تجارية كبرى، من غير المنتجين، أي الذين يعتمدون على تقديم الخدمات، ليحصلوا على جزء من الربح المتشكل لدى كبار المنتجين، وهناك أيضاً الكتلة الهائلة العائمة من رؤوس الأموال التي تستثمر في الأسواق المالية العالمية والبورصات، ومجموع هؤلاء يعتمدون على نشاط رئيسي هو الانتقال عبر أسواق المال العالمية، من مركز مالي إلى آخر، ليقوموا بنشاط مضاربي هائل وذو تأثير كبير على العمليات الإنتاجية في هذه المراكز، وهذا الانتقال يحدده السعي نحو مواضع الربح الأعلى في كل لحظة، مدفوعاً بميل معدلات الربح في قطاعات الإنتاج للانخفاض..

فمن أين يأتي الربح الذي يسعى إليه المذكورون جميعهم؟!

من أين يأتي الربح؟!

عملياً مصدر الربح الحقيقي، هو في المواضع التي تتم فيها عمليات الإنتاج، أي خلق القيمة المنتجة مجدداً، عن طريق تفاعل العمل البشري بالآلات والمعدات والمستلزمات التي أنتجها سابقاً في مراكز الإنتاج المتنوعة، وهذا يتركز وفق تصنيف ماركس في قطاعين رئيسيين: إنتاج وسائل الإنتاج أي إنتاج الآلات المستخدمة في عمليات الإنتاج، وإنتاج وسائل الاستهلاك أي مجموع السلع المرتبطة بالاستهلاك النهائي من الغذاء إلى اللباس وصولاً لوسائل الرفاه المختلفة، ويضاف إلى هذا عمليات خدمية جزئية تخلق قيمة جديدة من خلال عمل عمالها في النقل، والتعبئة وغيرها..

تقلص النمو.. والسعي للصين

عملية خلق القيمة المنتجة مجدداً اليوم، تتضاءل بشكل كبير، حيث يستمر الإنتاج العالمي، ولكنه لا يتوسع بالنسب ذاتها في مراحل الازدهار، بالتالي فإن الربح الحقيقي لا يزداد جدياً بين عام وآخر، وأبلغ دليل على ذلك هو مؤشرات النمو الاقتصادي العالمي  والتي لا تعبر تماماً عن هذه القيمة لكون طرق حساب الدخل الوطني تضاعف بعض الأرقام مشوهة حجم القيمة المنتجة مجدداً، لكن النمو يبقى المؤشر الأقرب للدلالة.

حيث أن معدلات النمو الاقتصادي في دول الاتحاد الاوروبي هي 1,6% عام 2014، في فرنسا 0,7%، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 2.1%

بينما العالم كله ينمو اقتصادياً بمقدار 2.7% فقط، تساهم الصين بمقدار 7.5% منها. عملياً يُخلق الجزء الأكبر من القيمة الجديدة، أي الربح الحقيقي في هذه الدولة الكبرى، مع غيرها من الدول الناشئة، التي تساهم بـ 4,7% من النمو.

وهذا يفسر تدفق رؤوس الأموال العائمة الباحثة عن الربح في بورصات الصين وفي أسهم الشركات الصينية، حيث ارتفعت قيمة هذه الأسهم كنتيجة لهذا التدفق بمقدار 150%، أي تضاعفت مرة ونصف خلال عام فقط بين حزيران 2014، و 2015.

دور البورصات

في سرقة القيمة المنتجة مجدداً

إن تدفق هذه الأموال الكبرى، يضخم  قيمة الأسهم ورؤوس أموال الشركات ومجموع الأعمال في الصين إلى أكبر من قيمتها الحقيقية.

وبالتالي عندما تخرج هذه الأموال بسرعة من السوق الصينية، بسبب توقعات بتراجع الأرباح أو تراجع في الصناعات كما حدث، فإنها تفقد الأسهم الصينية الكثير من القيمة المتضخمة، وقد تفقدها جزءاً من قيمتها الحقيقية، عندما تصاب البورصات بانهيارات كبرى..

فتنخفض قيمة أسهم الكثير من الشركات العاملة في السوق الصينية، وتصبح عملياً قابلة (للبيع برخص)! لتقوم جهات مالية أخرى بشرائها بالأسعار المنخفضة في الوقت الذي يحجم الجميع عن الشراء، ويحصل تمركز كبير في رؤوس الأموال في الصين. أي قلة من كبار المستثمرين يملكون أسهماً أي رؤوس أموال مجموعة من الشركات.

وبهذا يحقق الاضطراب وانخفاض قيمة الأسهم، الفرصة السانحة لتشتري رؤوس الأموال الكبرى وبأسعار منخفضة، أسهم الشركات الصينية التي لا تزال تعمل وتنمو وتخلق قيمة جديدة!.. 

الولايات المتحدة الملاذ الرابح

وبالمقابل رؤوس الأموال التي خرجت من الصين، تنطلق نحو الملاذ الأهم لرؤوس الأموال العائمة عالمياً، في أسواق الولايات المتحدة الأمريكية، حيث الاقتصاد الأول، والمركز المالي الضخم، المدعوم بدور الدولار كعملة عالمية، أيضاً حتى الآن.. وهو ما قد يفسر التعويض السريع لأسواق الأسهم الاميركية، للانخفاض الذي أصابها في الاضطراب الحالي، حيث ارتفعت البورصات الأميركية في يومي 26-27 /8- 2015 بمقدار 3,97%، معوّضة ما خسرته بمقدار 3,6% في يوم 24 آب-2015.

ولكن ما هو حد الربح المضاربي؟!

بالنهاية فإن البورصات، تعبر عن عملية البحث المحموم  للشركات الكبرى ورؤوس الأموال العائمة عن توسيع الربح للحد الأقصى، وتنشأ عن هذه العملية تضخيم مضاربي كبير لأسعار الأسهم، ورؤوس أموال الشركات، وأرباح مضاربية لمراكز المال..

إلا أن الربح الحقيقي كما ذكرنا يولد في عمليات الإنتاج الحقيقي، التي تشترط الاستهلاك، وهنا تكمن مشكلة الاقتصاد العالمي اليوم التي لا تجد حلاً من قلب الرأسمالية.

فالاستهلاك العالمي بتراجع واضح، يمنع كبار المنتجين عن التوسع بالإنتاج، فتوزيع الثروة عبر العالم يشهد أقصى حالات تفاوته. ما يخلق التناقض الكبير، بين إمكانيات الإنتاج الكبيرة، وإمكانيات الاستهلاك المتراجعة، حتى لدى كبار المستهلكين العالميين، وصولاً إلى أصحاب الأجور.

وهذا التراجع الكبير في الاستهلاك، المتمثل بشكل كبير بتراجع التجارة العالمية التي كانت تتوسع بمعدل 13,8% في عام 2010، وأصبحت تتوسع بمعدل 2% فقط في 2014، أما تجارة الدول المتقدمة الأكثر استهلاكاً عالمياً فهي لا تنمو مطلقاً (-0,4%). 

وتراجع الاستهلاك هو أحد أهم مسببات تراجع معدلات الربح في العالم، التي تدفع دول متقدمة وتمتلك جميع إمكانيات الإنتاج تقتصر في توسيع إنتاجها على معدل 1-2%!..

الاستهلاك والتوزيع في عمق الأزمة

في هذا الموضع يكمن عمق الأزمة الاقتصادية للرأسمالية في اللحظة الراهنة، والذي لا تستطيع أن تخرج منه، إلا إذا أعادت توزيع الثروة باتجاه أصحاب الأجور، ومن دول الشمال إلى دول الجنوب، وهو الأمر المنافي لهدف الرأسمال في أعلى مراحل تمركزه وتشوهه الحالية، وهو الذي دفع ويدفع قوى المال العالمية إلى خيارها التقليدي وهو التدمير، وإعادة التملك، أي الحرب.

إن دولاً مثل الصين ومجمل دول آسيا والدول الناشئة التي تمتلك إمكانيات للنمو والتقدم،  لديها الفرصة الأكبر بالخروج بأقل الخسائر من الأزمة الاقتصادية العالمية، ولكن عليها أن تعزل اقتصاداتها عن تأثير مراكز المال العالمية والبورصات، لأنها واحدة من أهم أدوات التخسير والتهاوي السريع. وسيساعد هذه الدول الآفاق المحدودة للدولار كعملة عالمية، وخلق البدائل.

هذه الدول بدأت  تدرك أن توسيع الاستهلاك الداخلي اليوم، والتوزيع باتجاه أصحاب الأجور، والتجارة الأكثر عدالة وتكافؤاً، هي المفتاح الرئيسي لاستمرار وتوسع النمو، والمؤشر الأهم هو سعيها لمنع قيام الحرب، رئة الرأسمالية، التي تستهدف مواضع خلق القيمة المنتجة مجدداً، لتدمر كل من يقف في طريق نمط توزيعها للثروة!.

4 أدوار رئيسية للبورصة

تلعب البورصات والأسواق المالية الدور الأهم في عالم اليوم، بالنسبة لرأس المال العالمي، ولحمايته من تراجع الربح في أزمته المزمنة، بأربع طرق رئيسية:

• تؤمن البورصات الكبرى الشركات العالمية الصناعية، رأس مال كبير بطريقة سهلة، أي تجمع رؤوس الأموال الصغيرة، بيد كبار الشركات، لتعمل وتتوسع بها، وتزيد من أرباحها الحقيقية.

• تؤمن لرأس المال العالمي الفائض والريعي (غير الإنتاجي)، مجالاً للمضاربة وتحصيل الربح من التسلق على العمليات الإنتاجية.

• تؤمن في اضطراباتها الدورية في الأسواق العالمية المختلفة، هز اقتصاديات هامة، وتقليص قيمة شركاتها، متيحة بذلك شرائها بأسعار أقل، وبالتالي مركزة رأس المال العالمي.

• لا تطال البورصة رؤوس الأموال الصغيرة والكبيرة فقط، بل تطال العاملين بأجر ومدخراتهم التي توظف في الأسواق العالمية، حيث تعتبر صناديق التقاعد على سبيل المثال أحد أهم المستثمرين في البورصة، والتي تخسر مع كل تراجع في قيم البورصات الكثير من قيمة الأجور المتراكمة فيها.

عملياً تهدف البورصات، إلى إتاحة سحب القيمة المنتجة مجدداً في كل مكان في العالم، من قبل المراكز المالية الكبرى، وهذا الدور مدفوع بالدور المناط بها منذ منتصف التسعينيات، لتقوم بتدوير رأس المال الفائض، ومنعه من الانكشاف، فهو لا يمكن أن يدخل العملية الإنتاجية بكل كتلته في ظل انخفاض معدلات الربح..