التهاب أعصاب النظام الرأسمالي على وقع المواجهة المفتوحة!
تستكمل قاسيون فيما يلي تقريرها الخاص عن أوضاع الاقتصاد الدولي في عام 2014، حيث عالج العدد الماضي وضع النظام الرأسمالي بشكل عام وآخر مستجدات أزمته الاقتصادية وركزت على وضع المراكز الرأسمالية الغربية المهيمنة، وهي تحاول اليوم إلقاء النظر على الأقطاب الرأسمالية «الصاعدة» نتيجة تراجع الغرب في ظل أزمة النظام الرأسمالي العامة.
وفقاً لتقرير «آفاق الاقتصاد الدولي» الصادر عن صندوق النقد الدولي، فإن انتعاش النمو في الدول الصاعد يعود لعدة عوامل قطرية وعالمية أهمها: «حدوث بعض التعافي في البلدان المتأثرة بالتوترات الجغرافية السياسية و/أو الصراع الداخلي في عام 2014... إزالة المعوقات الهيكلية أمام النمو بالتدريج في بلدان أخرى... الأوضاع المالية العالمية الميسورة وزيادة الطلب الخارجي من الاقتصادات المتقدمة...»
مستجدات العام المنصرم تتجاوز عقلية المؤسسات الدولية!
أما المخاطر على هذا النمو فيقول التقرير عنها: «زادت مخاطر التطورات السلبية منذ فصل الربيع. وربما يتضح أن زيادة التوترات الجغرافية السياسية حالة مزمنة، مما يعوق التعافي في البلدان المعنية بشكل مباشر ويؤثر سلباً على الثقة في بلدان أخرى. ويمكن أن يؤدي تفاقم هذه التوترات إلى ارتفاع حاد في أسعار النفط، وتراجع في أسعار الأصول ومزيد من العسر الاقتصادي. وتتضمن مخاطر الأسواق المالية عودة فروق المخاطر والتقلب في الأسواق المالية بعد أن شهدا انخفاضاً في الآونة الأخيرة، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية طويلة الأجل عن المستوى المتوقع مما يمكن أن يسفر أيضاً عن زيادة ضيق الأوضاع المالية بالنسبة للأسواق الصاعدة...»!
يبدو أن التقرير صيغ انطلاقاً من التقسيمات التاريخية في العالم الرأسمالي حيث لم يلحظ إمكانية الدول الصاعدة على سبيل المثال في تأمين النمو عبر أدواتها التي بدأت بالتبلور ذاتيا، بل أصر على أن مصدر النمو مرتبط إلى حد كبير بالسيولة الدولية ومصادرها التقليدية وطلب الدول المتقدمة، وسنتبين فيما يأتي أن العديد من هذه الأدوات باتت تعاني من خلل كبير فأسعار النفط هبطت خلافاً لتوقعات الصندوق، والدول الصاعدة أوجدت نواتات بدائل للتمويل الدولي.
لقد كان من اللافت أن الدول الصاعدة كمنظومة البريكس حققت نمواً على الترتيب البرازيل (0,3%) روسيا (0,2%) الهند (5,6%) الصين (7,4%) وجنوب إفريقيا (1,4%) والتي من المفترض أنها قد تأثرت بعاملين خطرين على النمو «التوتر السياسي» كحالة روسيا الناتجة عن حرب النفط والعملات وتوترات الأزمة الأوكرانية، و«هروب الرساميل» من الاقتصادات الصاعدة وتراجع في العملات كالذي شهدته كل من الهند والبرازيل وروسيا في أواخر 2013 وأوائل العام 2014 الناتج عن حرب العملات، ورغم كل ذلك بلغ وسطي معدل النمو لتلك الدول (2,98%) بينما بلغ وسطي النمو لدول المتقدمة (الولايات المتحدة- المملكة المتحدة- فرنسا- ألمانيا- كندا-اليابان- إيطاليا) 1,45% مما يشير إلى أن النمو سيستمر في الدول الصاعدة رغم المواجهة المفتوحة بين أحد أهم أقطابها وبين الغرب.
نواة التنمية «البديلة» رأت النور في 2014!
لقد عزز عام 2014 تبلور محورين اقتصاديين إن صح التعبير، المحور الأول لهذا التجمع هو دول البريكس، والمحور الثاني هو المراكز الغربية التقليدية، ودون إغفال الترابط الاقتصادي بين الكتل الرأسمالية، إلا أن تجمع البريكس والذي توقعت له وكالة «بلومبيرغ» بالنمو بمعدل 5,37% عام 2015، تصاعد ارتباطه البيني أكثر على وقع ردات فعل الكتل التقليدية على تقدماته الدولية سياسياً واقتصادياً. وعززت حرب العملات بحث هذه الدول عن مصادر تمويل بديلة وأدوات للتحكم بالوضع النقدي الخاص بهذه الدول، ففي قمة البريكس في البرازيل لعام 2014 أعلن المجتمعون عن إنشاء بنك للتنمية برأسمال قدره 50 مليار دولار وصندوق للتحوط المالي بقيمة 100 مليار دولار.
كما تم إرساء الخطوة الرئيسية في مشروع «طريق الحرير الصيني» الهادف إلى إقامة أوسع العلاقات بين الصين وآسيا الوسطى والمبني على تنفيذ مشاريع تنموية واستثمارية في البنى التحتية سيتم تمويلها عبر بنك للتنمية من أجل آسيا، بلغ رأسماله 50 مليار دولار، وأنشأته الصين مع 20 دولة آسيوية أخرى في هذا العام بغرض كسر احتكار المؤسسات الدولية التقليدية في تمويل التنمية. وعلى صعيد التجارة الدولية فقد نجحت الصين في قمة شنغهاي لمنظمة آبيك (منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي) في بلورة طرحها في التجارة الدولية، حيث تبنى المنتدى مشروعها «منطقة التجارة الحرة في آسيا والمحيط الهادي» قاطعاً الطريق على مشروع الولايات المتحدة المتمثل بـ«الشراكة عبر المحيط الهادي».
في السياق ذاته جاءت عملية تشكيل الاتحاد الأوراسي بين روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان ليكون قطباً اقتصادياً دولياً جديداً ومفتاحاً روسياً لآسيا الوسطى.
اليوان ثاني أكبر عملة للتبادلات التجارية في العالم
واصلت روسيا والصين خطواتهما المتصاعدة في كسر هيمنة الغرب والدولار على التجارة الدولية، حيث وقع البلدان أضخم اتفاقيات التاريخ الاقتصادي والتي شملت 38 اتفاقية كان أبرزها اتفاقية إيصال الغاز الروسي للصين بقيمة 400 مليار دولار لمدة 30 عاماً، وبلغ حجم التبادلات التجارية بين البلدين 89 مليار دولار في هذا العام. كما أن أبرز الاتفاقيات هو ماتم توقيعه بين البنكين المركزيين الصيني والروسي والقاضي بتبادل (150 مليار يوان صيني بما يعادل 24,5 مليار دولار) لبدء تبادل العملات المحلية «الروبل واليوان» من دون الدولار وذلك على طريق اعتمادها كعملات رئيسية في التجارة بين البلدين، ورأت موسكو أنها قادرة في هذا العام على بدء تبادل نصف حجم التجارة بين البلدين بالعملات الوطنية، وذلك وفق ما أفاد به أليكسي مويسيف وزير المالية الروسي تعليقاً على هذه الاتفاقية.
ووفقاً لتقرير بنك HCBC العالمي فقد أصبح اليوان الصيني ثاني أكبر عملة تستخدم في التبادلات التجارية الدولية بعد الدولار مقصياً اليورو عن هذا الموقع، كما كشفت الصين واليابان عن خطط لتعزيز عمليات تبادل العملة بين الدولتين بصورة مباشرة وذلك عبر اتفاق يسمح للشركات بتبادل عملتي الصين واليابان بصورة مباشرة، ووقعت المصارف المركزية في انكلترا وسويسرا وألمانيا اتفاقات شبيهة تقتضي بتبادل العملات الوطنية مباشرة، وشرعت بريطانيا في تنفيذ الخطوات الإجرائية لاصدار أول أصول سيادية بالعملية الصينية.
روسيا هل هي حلقة أضعف؟!
وقعت روسيا 25 اتفاقية مع الهند في زيارة واحدة، وكان على رأسها عقود استراتيجية في مجال الطاقة النووية والغاز بالإضافة إلى إقرار اتفاقية خاصة تجعل من العملات الوطنية أساس التبادل التجاري للبلدين. كما جاءت اتفاقية الغاز مع تركيا كعقوبة غير مباشرة من الروس لأوروبا، حيث اتفق الجانبان (الروس والأتراك) على توسيع السيل الأزرق الخط البحري لنقل الغاز الروسي إلى تركيا، لتزداد طاقته من 3 مليارات متر مكعب سنوياً إلى 19 ملياراً. كما تم الإعلان عن طي خط «السيل الجنوبي»، بسبب عراقيل المفوضية الأوروبية وموقف بلغاريا التي كان من المفترض أن يرسو الخط من البحر فيها، ومنح هذا الخط لتركيا التي «ستتحول إلى بوابة شرقية لإيراد الغاز إلى القارة العجوز» كما وصفها الإعلام الروسي. كما عملت روسيا على إيجاد بدائل وطنية لبطاقات وشركات الإئتمان الغربية بالإضافة إلى إطلاق نظام «سويفت» خاص بالتحويل المالي لضمان التحويلات بين المصارف الروسية. ونجحت روسيا حتى اللحظة في سرعة إيجاد بدائل لاقتصادها مما دل على إرادة سياسية-اقتصادية حاسمة في المواجهة.
100 مليار دولار خسائر الخليج في شهر واحد من حرب النفط!
في مواجهة كل ذلك رد الغرب بتصعيد الجبهات الاقتصادية والسياسة على روسيا التي يعتبرها الغرب مركز النشاط الاقتصادي-السياسي المعادي أو الحلقة الأضعف التي ينبغي كسرها مقارنة بالصين. حيث خسرت روسيا نتيجة العقوبات الغربية حوالي 40 مليار دولار وحوالي 100 مليار دولار نتيجة تراجع سعر النفط بنسبة 30%، بالإضافة إلى الخسائر غير المباشرة الناتجة عن تراجع سعر الروبل من 32 روبل/$ بداية عام 2014 إلى 57 روبل/$ في نهاية العام.
وبالمقابل خسرت أوروبا وفق تقديرات أولية وحتى شهر أيلول من عام 2014 حوالي 40 مليار يورو نتيجة العقوبات. كما أن خسائر دول الخليج قدرت بأكثر من 300 مليار دولار في الـ2014 نتيجة هبوط أسعار النفط، ومن الممكن أن تصل إلى 400 مليار دولار في عام 2015، فخلال شهر واحد وهو شهر أيلول الماضي وعند نقطة (68 دولار للبرميل) خسرت البورصات الخليجية 100 مليار دولار تضاف إلى جملة خسائرها منذ بداية تموز الماضي عند بدء شرارة «حرب النفط».
خلاصة عام ملتهب!
لقد كان عام 2014، عام بلوغ المواجهة الدولية على الصعيد الاقتصادي نقطة نوعية، حيث اشتعلت الحروب الاقتصادية على جبهتي المال والطاقة عصب الإنتاج الرأسمالي، مما سرع بلورة القطب الاقتصادي الصاعد ممثلاً بدول البريكس وتحالفاتها وتداخلاتها الدولية وتم كل ذلك على أرضية اقتصادية كانت أهم أساساتها:
- زيادة الترابطات الاقتصادية بين دول البريكس ومحيطها، وجعل دول البريكس محور إدارة عمليات المواجهة مع الغرب، مما يجلعها نقط استقطاب للدول الباحثة عن التنمية المستقلة، بعيداً عن المؤسسات التقليدية كصندوق النقد والبنك الدوليين.
- زيادة عمليات التبادل التجاري بين هذه الدول والتي بات يتم أجزاء منها بعملية المقايضة.
- زيادة التبادل التجاري بالعملات الوطنية.
- البحث عن بدائل للنظام المالي الدولي القائم. وهو مايعني العمل على تفادي مخاطر انخفاض السيولة الراشحة من الدول المتقدمة عبر أدوتها التقليدية، وكل ماسبق سيصب لاحقاً في تغيرات هامة في النظام المالي والنقدي الدولي الراهن.