حين يصيب (المركزي) السياسات بسهامه!
مراد جادالله مراد جادالله

حين يصيب (المركزي) السياسات بسهامه!

مع كل ارتفاع لسعر الدولار مقابل الليرة السورية يعود الجدل والصخب حول سياسات المركزي وأدائه أثناء الأزمة التي لم يغير المركزي بها شيئاً من حال انخفاض قيمة الليرة المستمر. ومقابل الانخفاضات المتكررة لقيمة الليرة يستمر المركزي بإعلانه عن التدخل عبر أداتين محددتين هما بيع الدولار لشركات الصرافة وتمويل المستوردات للتجار.

يبرر حاكم مصرف سورية، وفقاً لما نقلته عنه مواقع اقتصادية تدخله بهذه الطريقة فيقول:(مصرف سورية المركزي لا يميّز بين القطع الأجنبي الموجود في السوق أو لدى المركزي، لذلك سمحنا لشركات الصرافة ببيع 40% من حصيلة الحوالات لتمويل المستوردات للتضييق على السوق السوداء). بمعنى أعمق يريد الحاكم القول إنه: بمقابل انخفاض عرض الدولار في السوق نتيجة عوامل اقتصادية أهمها تراجع الإنتاج والحصار المالي، لا بد من زيادة هذا العرض لمنع ارتفاع سعر الدولار، وأنه لاسبيل لزيادة هذا العرض إلا عبر التدخل بالأداتين السابقتين. كما يرى المصرف المركزي على لسان حاكمه، ووفقاً للمنابر نفسها، أن تمويل المصرف المركزي الذي يغطي 40% من المستوردات يفوق واردات المركزي من قطع التصدير الذي يعيده التجار للحكومة بـ(عشرة أضعاف). وهو مايعني خسائر في القطع يتكبدها المركزي لمصلحة التاجر. 

من المستفيد.. وماهي هذه السوق؟!

لكن وبعيداً عن كل ذلك فإن السؤال الذي يستدعي الطرح، ماهي الحاجة الضرورية في الظروف السورية لزيادة عرض الدولار في السوق؟ ومن هو المستفيد الفعلي من هذه الدولارات في السوق؟ المواطن صاحب الأجر؟ شركات الصرافة؟ كبار التجار؟ أصحاب الأرباح ورؤوس الأموال؟! ولماذا حافظ المركزي على السياسة ذاتها؟! 

بالنسبة للمصرف المركزي كان الجواب على السؤال الأول حول حاجة السوق، بأنها تكتفي عند الوصول لأي تخفيض لسعر الصرف وإن كان بشكل مؤقت، وهذا الجواب مستشف من نتائج تدخلاته المتكررة حتى اللحظة لا من إعلان رسمي. بالنسبة للسؤال الثاني حول المستفيدين فالمركزي يتدخل في السوق النظامية فقط. ولكن ذلك لا يوضح طبيعة الأشخاص والفعاليات المنتفعة من هذه السوق. 

ففي هذه السوق يوجد المواطن البسيط صاحب الأجر، والتاجر الصغير، والتاجر الكبير وأصحاب المليارات، والذين يطلب كل منهم الدولار بوزن محدد ولغرض محدد... ومن البديهي القول إن صاحب الوزن الأثقل أي (كبار أصحاب رؤوس الأمول، كبار تجار المستوردات، كبار الصيارفة) هم أهم عوامل تحديد الطلب الأكبر وبالتالي تحديد السعر العام للدولار، وهم عملياً أصحاب الاسم الحركي (السوق) الذي يطلقه المركزي عليهم والذين يستجاب لهم عملياً. طبعاً علينا أن لا نغفل فكرة أن الطلب على الدولار ليس العامل المحدد الوحيد للسعر، بل إن جانب العرض هو أيضاً محدد أساسي، والمتمثل بتسعيرة المركزي باعتباره المصدر الأساسي لعرض الدولار في السوق، ولكن لا أحد يعرف مدى استقلالية تسعيرة المركزي عن باقي مالكي الدولار في السوق السوداء أو النظامية ككبار الصيارفة وغيرهم، طالما أن مآل السعر سيعود إلى توازن العرض والطلب في نهاية المطاف، وطالما أن ارتفاع هذا السعر يؤثر سلباً على المواطن العادي ويعود على الباقين المذكورين أعلاه إيجاباً وزيادة في هوامش الربح. 

عقيدة الربح.. ربح من؟!

من هذه العقيدة، عقيدة الربح الخاصة بقوى السوق، يمكن الجواب على سبب استمرار المركزي بالتدخل بالأدوات نفسها، ليس قصوراً من المركزي أو جهلاً بأدوات تدخل أخرى يراها البعض مثاراً للسجال الأكاديمي، بل إن أدواته وسياساته متكيفة وخاضعة لبنية السوق ومصالح قواه. إن المركزي يعترف بشكل واضح بأنه لايميز بين (دولارته) و(دولارات) شركات الصرافة، فكلها للسوق، ويعترف أيضاً بأنه يخسر الكثير لصالح التجار، وهو بذلك ينطلق من التأكيد على أن سياساته وأدواته ليست إلا نتاج هذه البنية المشرعنة والملبية للسياسات الأوسع في الحكومة والقائمة على البحث عن أي ربح مباشر لمصلحة كبار المستمثرين لا المواطن. 

(فصام) بين الهدف المعلن والأدوات

لن يستطيع المصرف المركزي في ظل هذه السياسات الحفاظ على مهمته ودوره في الحفاظ على السعر في ظل دور لشركات الصرافة، والتي تربح شرعياً من هامش تغير وارتفاع هذا السعر، ولن يستطيع مواجهة زيادة الطلب على الدولار طالما أنه ناتج عن قيام العديد من كبار أصحاب رؤوس الأموال بتحويل أرباحهم في نهاية العام من الليرة السورية إلى الدولار (وفق ماحصل مؤخراً بأقل تقدير)، ولن يستطيع تعويض نزيف دولارات تمويل التجار طالما أن العوائد أقل من نفقاته، فكيف من الممكن وضع مهمة تخفيض السعر للمركزي بأدوات تعمل على رفع هذا السعر؟! ألا يشكل هذا فصاماً!. 

لا نبرر لـ(المركزي) دوره السلبي في الأزمة طبعاً، إلا أن ماينبغي لحظه في معالجة قضية سعر الصرف هو عدم قصرها على دور المركزي فقط، بل رؤية تحولات بنى النظام الاقتصادي وما يتمخض عنها من سياسات كمحدد أساسي، فبالبحث عن طبيعة المستفيدين من هذه الإجراءات والتي هي مهمة واضعي السياسات الحكومية المحكومة ببنية النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم، تتبين الحقيقة. 

لقد انتهى دور المصرف المركزي عملياً، في ظل تدهور الإنتاج وتراجع مصادر القطع الأجنبي التي أمنتها سابقاً عمليات تصدير الإنتاج في الاقتصاد الحقيقي، إلى منسقٍ عامٍ لأرباح قوى السوق المذكورة سابقاً، والتي يعلن المركزي صراحة تدخله لمصلحتها وإن بشكل مبهم. فالأزمة وما سبقها من سياسات دمرت الإنتاج وأرباحه وأصحابه السابقين، ونشّطت الربح في قطاعات اقتصادية جديدة نسبياً وهي المستورادت والصيرفة والمضاربة وبعض قطاعات الخدمات المستمرة في الأزمة، وظلت سياسات الحكومة قائمة على محاباة الربح، وتكيفت بشكل أكبر معها بسبب ضعف دورها بعد تراجعها عن القطاع العام المنتج، فصار أصحاب (الربح الجدد) (مَرَدة) يحكمون عملياً السوق والاقتصاد والمصرف المركزي.