السياسات الاقتصادية الليبرالية أنتجت الأزمة.. والفقراء كانوا «وقودها»

السياسات الاقتصادية الليبرالية أنتجت الأزمة.. والفقراء كانوا «وقودها»

بعيداً عن الأسباب العميقة التي أنتجت الأزمة الحالية، أو ساهمت بالحد الأدنى في زيادة حدة ثأثيرها، تسير أغلب التحليلات التي يقدمها بعض السياسيين وحتى من يعتبرون أنفسهم محللين وخبراء افتصاديين، الذين تفننوا في التجاهل عمداً أن الازمة الحالية بكل تبعاتها ليست سوى انعكاس ونتيجة حتمية ومتوقعة لسياسات الانفتاح الاقتصادي، والليبرالية الاقتصادية، وتراجع الدولة عن دورها الاقتصادي

فهذه السياسات على امتداد عقود من الزمن هي من كان له اليد الطولى في كل ما وصلت إليه البلاد من مآسٍ حالية، وهذا ليس مسؤولية الحكومة منفردة كما يحاول البعض تصوير القضية، بل هي صنيعة التوجه الاقتصادي الذي أقره صانعو القرار السياسي - الاقتصادي، فالحكومة ليست هي المخطط لسياسات الانفتاح الاقتصادي، بل هي المنفذ لها، وهذا لا يعني إعطاءها صك براءة بأي حال من الأحوال من مسؤولية ما وصل إليه الشعب السوري من أوضاع مأساوية نتيجة سياساتها السابقة والحالية..

«نظرية المؤامرة»

يتكئ بعض المحللين إلى نظرية المؤامرة للقول إن المعضلة لم تكن بالسياسات الاقتصادية السابقة على وجه التحديد، ليبرروا من وراء كل ذلك السير في السياسات الاقتصادية ذاتها لاحقاً، وهذا ما يمكن تلمسه في الخطوات والإجراءات والقرارات الاقتصادية التي تتخذها «حكومات الازمة» التي لم تغير في سياساتها إلا من حيث الشكل فقط، دون أن يلامس التغيير جوهرها، كالقول بالتسعير الإداري أو المركزي الذي لم يرَ منه السوريون فاعلية على ارض الواقع، أو تقزيم قضية الفساد واعتبارها قضية اعتيادية تعانيها كل الدول والمجتمعات، دون الاعتراف بأن ارتفاع معدلات الفساد وتوسع رقعته على امتداد البلاد بكل مكوناته هو أهم أسباب الأزمة الحالية، وبشكل أخص الفساد الكبير، الذي يعبر عنه في التحالف القائم بين مافيات الفساد داخل جهاز الدولة ومؤسساتها والطبقة الفاسدة من رجال الأعمال، ليكملوا بذلك حلقة نهب واستنزاف الاقتصاد الوطني، دون النظر إلى حجم الفساد، وإلى دوره في زيادة حدة الفوارق الطبقية في المجتمع السوري، أليس الفساد هو من أدى لتفاقم تأثيرات الأزمة والحرب على حياة السوريين ومعيشتهم؟! 

اختزال أجوف

بينما يسعى آخرون على الضفة الاخرى للقول إن الجانب السياسي هو من يتحمّل المسؤولية فقط، وبأن غياب الحريات السياسية هو من أنتج الأزمة الحالية، وفي هذا تقزيم للأزمة العميقة والشاملة التي تعاني منها البلاد، وفي هذا التوجه سعي حثيث للقول إن الليبرالية الاقتصادية لم تكن المشكلة، بل إن القضية تختزل بالجانب السياسي باعتباره الجوهر، بينما المنطق يفترض العكس، وفي هذا التوجه محاولات واضحة – اعترف البعض أم أنكر- لتبرير اتباع سياسات الليبرالية الاقتصادية في السنوات اللاحقة..

مخاوف مشروعة

الجميع في تحليلاتهم، مهما أختلف موقفهم السياسي بين معارض أو مؤيد، فإنه يسعى لإبعاد الجانب الاقتصادي عن جوهر الأزمة التي تعيشها البلاد، ساعين من وراء ذلك إلى تمرير سياسات اقتصادية متشابهة تخدم الطبقات المخملية في المجتمع السوري، وتنسجم في الوقت ذاته مع توجهات البنك الدولي وصندوق النقد، وهذا لم يأتِ مصادفة، فالسوريون المتصارعون على الأرض السورية استفادوا من الفقراء لإدامة الازمة، وحلّ الفقراء وقوداً للأزمة وللحرب المستعرة في البلاد، وهم من الذين يمكن أن يضحى بهم بعد انتهاء الازمة مباشرة، بجملة من القرارات الاقتصادية الليبرالية التي ستنسف أمنهم واستقرارهم الاقتصادي لمصلحة التحالف القائم بين كبار الفاسدين وأصحاب رؤوس الأموال على اختلاف انتماءاتهم والمنسجمة مع مطالب صندوق النقد والبنك الدوليين.. 

المبادئ الاقتصادية في الدستور لم تدخل حيز التطبيق بعد!

تحدث المشرعون في المادة الثالثة عشرة بالمبادئ الاقتصادية، عن الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى رفع المستوى المعيشي للفرد وتوفير فرص العمل، كما تقول المادة ذاتها أيضاً بتحقيق العدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة، وهذا يفترض السؤال: أين الإجراءات والسياسات الاقتصادية التي تتبعها الحكومات الحالية من الدستور السوري؟!

بالطبع سيتحدث البعض عن سمفونية الأزمة مبرراً الفوارق المتزايدة بين الطبقات في المجتمع، فالأزمة ستخلق انحرافاً لا يمكن تجاهله، إلا أن هذا لا يعني التجاهل الكلي لما أقره الدستور السوري، والذي لم يدخل حيز التطبيق في المحصلة النهائية..

مستويات الفساد ارتفعت إلى حدود قياسية في سنوات الأزمة، والتجار ضاعفوا أرباحهم على حساب الأغلبية الساحقة من السوريين، وهذا بمجمله صب في خانة زيادة الاختلال القائم في توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، ولم يتوقف الأمر على هذا الجانب، بل إن القرارات الحكومية «زادت الطين بله»، حيث شكلت الرافعة الحقيقية لزيادة حدة الفوارق الطبقية لمصلحة الاغنياء، فقرارات رفع أسعار المشتقات النفطية لم تكن في مصلحة الطبقات الفقيرة بكل تأكيد، وكذلك كان تأثير قرار رفع أسعار مدخلات العملية الزراعية، والأسوأ من ذلك، هو فرض زيادة ضريبية على عموم السوريين تحت بند إعادة الإعمار، دون أن يقترب أحد من هؤلاء الأثرياء، فلم تفكر الحكومة يوماً في فرض أية ضرائب إضافية على الأغنياء، وهم مركز النهب الممنهج للاقتصاد الوطني، ولهذا نسأل: لما ستكون الأزمة التي تعيشها البلاد على حساب لقمة المواطن وكرامته؟! ولماذا حل رفع أسعار المشتقات النفطية والكهرباء وسواها المخرج الوحيد بيد الحكومة لتمويل الموازنة العامة وتأمين الموارد المالية؟!

215 ثرياً سورياً تزيد أملاك كل واحد منهم عن 30 مليون دولار، ويبلغ مجموع ثروات السوريين الأثرياء جداً وفق أرقام (ويلث إكس) نحو 23 مليار دولار (3450 مليار ل.س)، بينما كشف تقرير الثروة العالمي 2013، الذي أعده مصرف (يو بي إس)، أن سورية في المركز السادس بالشرق الأوسط بعدد الأثرياء، والذين يقدرون بـ 205 ثرياً، وبإجمالي ثروات تتجاوز الـ 22 مليار دولار، فثروات هؤلاء تتجاوز حجم الناتج المحلي في البلاد، وفرض ضريبة بمقدار 10% على ثروات هؤلاء يعني تأمين 345 مليار ل.س سنوياً، بينما لم يؤمن قرار رفع سعر البنزين بمقدار 20% سوى 11 مليار فقط، فالحل من جيوب الأغنياء وليس الفقراء، وهم الأكثر إغراءاً، إلا أن أحداً لا يريد الاقتراب من جيوبهم..

قنوات استثنائية لتمويل خطط (إعادة الإعمار)

لم يتوقف أزيز الرصاص ودوي المدافع بعد، إلا أن أطراف النزاع على اختلاف آرائهم يعدون العدة ويتنادون لإعادة الاعمار، فالمؤتمرات والندوات التحضيرية جارية على قدم وساق، إلا إن الأسئلة الأساسية التي يجب الحديث عنها لم تطرح بعد، كيف يحين موعد إعادة الإعمار والحرب لم تضع أوزارها بعد؟! 

برسم المهتمين؟!

إذا ما كانت إجابة بعض المتفائلين بالإيجاب على سؤالنا هذا وبما ينافي الواقع بطبيعة الحال، فمن واجبنا أن نسأل عن قنوات التمويل المفترضة، فهل هي محلية أم خارجية؟! وإذا كانت خارجية، فما هو انعكاس تلك القروض على الاقتصاد الوطني؟! وهل سنكون قادرين على تمويل فوائد الدين العام لاحقاً؟! وإذا ما كانت الإجابة مغايرة، فما هي القنوات الكفيلة محلياً بتمويل مرحلة إعادة الإعمار وتأمين مئات المليارات من الليرات السورية؟! وثالث الأسئلة بعد حضور الشرطين السابقين، من أين نبدأ الإعمار؟! وأي القطاعات هي الأولى بتلك العملية؟! كلها أسئلة لم يُجب عليها هؤلاء القائلون بإعادة الإعمار حتى الآن!..

مؤتمرات وتحضيرات للتقاسم

الجميع «يسن أسنانه» على كعكة إعمار سورية، والتحضّيرات تجري على قدم وساق لدى جهات محلية وإقليمية ودولية لإعادة الإعمار، فمن اجتماع «مجموعة عمل إعادة الإعمار الاقتصادي» التابعة لمجموعة ما يسمى «أصدقاء سورية» في برلين بعام 2012، مروراً بالمؤتمر الدولي الذي عقدته الحكومة الكورية الجنوبية لدراسة سبل إعادة إعمار الاقتصاد السوري، استطراداً بوضع اللمسات الأخيرة على شروط شركات إعادة الإعمار في سورية، وصولاً إلى مؤتمر "إعادة البناء والتنمية في سورية" الذي دعت إليه كلية الاقتصاد في جامعة دمشق في أواخر شهر آذار من عام 2014، وبجملة ما سبق ذلك من تصريحات تتحدث عن أن سورية الآن في مرحلة إعادة الإعمار، كل ذلك يوحي بأن الإعمار قد بدأ، ولم يبقَ أمام السوريين من هاجس سوى الإعمار، ولا شيء سوى الإعمار..

متى تنجح إعادة الإعمار؟!

بعد عدوان عام 2006 على لبنان تعالت أصوات المطالبين بضرورة إعادة إعمار ما هدمته الالة الحربية للاحتلال "الإسرائيلي"، وعلاج حالة الدمار والخراب التي طالت كل شيء فى لبنان، وبانتهاء العدوان "الاسرائيلي" في عام 1996 على لبنان عقد مؤتمر عالمي لإعادة الإعمار، كما عقد مؤتمر فى نهاية الحرب الأهلية في التسعينيات في لبنان، ولم تبدأ إعادة إعمار اليابان وألمانيا إلا في نهاية الحرب العالمية الثانية، كما أن مشروع مارشال الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا طُرح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1947، كما كان من البديهي أن خطة إعادة إعمار العراق لن تنجح إذا ما تم تنفيذها في بيئة غير مستقرة أمنياً، وهذا ما حذر منه أحد التقارير الأمريكية، وفي المحصلة، اعادة اعمار العراق لم تنجح لفشل ضبط الناحية الأمنية، فإعادة الإعمار ترتبط قبل كل شيء بانتهاء الحرب أو العدوان، وليس من المنطق أن نقول بإعادة الإعمار قبل توقف صوت الرصاص، فإذا أفشل الواقع الأمني خطط اعمار العراق، كيف ستنجح خطط إعادة الإعمار في واقعنا الحالي؟! ألن تترك تلك الارتجالية آثاراً جسيمة على الاقتصاد سيدفع ثمنها الشعب السوري في المحصلة النهائية؟! 

«من تحت الدلف لتحت المزراب»

يتحدث غالبية المنادين بإعادة الإعمار عن دول صديقة يصنفها هؤلاء حسب دعمها لهم وهي من سيكون لها اليد الطولى في إعادة الإعمار، على أن يفوز الأصدقاء والاصدقاء فقط بجائزة إعادة الإعمار، والأصدقاء يختلفون  باختلاف الموقف والاصطفاف السياسي، ليكون الاقتصاد الوطني والموارد السورية في هذه الحال مجرد غنيمة وكعكة سيمنحها الرابح لأصدقائه، عبر فتح الباب على مصراعيه لاستثمار الاقتصاد الوطني مقابل منحه قروضاً سخية، والتي ما هي إلا ديون ستحمّل على عاتق الأجيال الحالية واللاحقة، فالخطر الحقيقي على الاقتصاد اللبناني - بحسب عدد من الاقتصاديين -  يتمثل في تكلفة خدمة الدين العام التي قاربت الـ 4 مليار دولار سنوياً، وهذا أرهق الخزينة العامة، وزاد من الديون الإجمالية لعجز الحكومة عن السداد، ولهذا نسأل: من الضامن عدم وقوع الاقتصاد السوري في الفخ ذاته بغض النظر عن الجهة الدائنة؟! ألن يعطّل هذا الدين وفوائده عجلة النمو في الاقتصاد الوطني إذا ما استدانت الحكومة المليارات لإعادة الإعمار عبر مؤتمرات الدول المانحة أو قروض المؤسسات الدولية؟!

الحل بنسف جوهر السياسات الاقتصادية

يقول البعض بالتمويل المحلي لإعادة الإعمار من الموازنة العامة، ويطالبون بالاعتماد على الإمكانيات الاقتصادية المحلية لتمويل الإعمار، ولكن، هل السياسات الاقتصادية المتبعة منذ عدة عقود ستتكفل بتمويل مرحلة إعادة الإعمار؟! أم أن الأنظار يجب أن تتجه نحو المطارح الاستثنائية للموارد والكفيلة بتمويل إعمار البلاد؟! فالمسار الإجباري لتمويل إعادة  الإعمار هو من قنوات الموارد المحلية، إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال الاعتماد على الموارد الاعتيادية من جيوب الاغلبية المسحوقة من السوريين، فالحل هو بإعادة النظر جذرياً بالسياسات الاقتصادية المتبعة للوصول إلى الموارد الضائعة، عبر ضرب الفاسدين ومصادرة أملاكهم على سبيل المثال، وبغير ذلك لن يكون الإعمار إلا على حساب الشرائح الفقيرة وحدها من الشعب السوري...