التنميّة: من النخبة.. وإلى النخبة
بين سيلوين بين سيلوين

التنميّة: من النخبة.. وإلى النخبة

(جيم أونيل) يعود من جديد. وهو المعروف بإطلاقه لفظ البريك (البريكس حالياً)، على مجموعة الدول– البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا– والتي ادّعى أنها ستكون قادرة على التحكم بالاقتصاد العالمي في القرن 21. اليوم يدّعي (أونيل) أن دول المينت (المكسيك، أندونيسيا، نيجيريا وتركيا) ستحظى بنفس النمو الاقتصادي الذي حظيت به الصين فيما لو استمرت بسياسات اقتصاد السوق.

ترجمة : بطرس شنيص

(أونيل)، اقتصادي بريطاني عمل لصالح مجموعة مصارف غولدمان ساكس الاستثمارية، وهو في طروحاته يقارب بين هدفين، إنه يعتبر الاقتصادات الناشئة بيئة مناسبة للاستثمار من قبل تجمع المصارف الدولي، حيث يقول إن البريكس والمينت يطرقون على باب التنمية، وفيما لو سعوا نحو السياسات الاقتصاديّة الصحيحة فإن الأبواب ستشرع لهم للاستفادة من عوائد النمو الاقتصادي. نظرة (أونيل) للنظام العالمي تعتبر أن السلوك المنطلق من المصلحة الذاتية للمصارف الاستثمارية، تساهم في تطور البلدان الفقيرة. هذا الاقتصادي مع غيره من الاقتصاديين النيوليبراليين يعملون على إخفاء الآليات الرئيسية للنمو الاقتصادي في ظل الرأسماليّة.

لدى عالمنا اليوم ثروات لا سابق لها، وفقر ضخم. قدّرت الثروة العالميّة في عام 2013 بـ 241 تريليون دولار ويتوقع أن تصل إلى 334 تريليون دولار في عام 2018. مع ذلك تعيش غالبيّة الشعوب في الفقر. إن الاعتراف أن ارتفاع الثروة والفقر العالميين مترابطان، وأن الأولى تستند بشكل أساسي على الأخيرة، هو ما لا يريده معظم اللاعبين في ميدان الاقتصاد العالمي، لأن الإقرار بذلك سيكشف دناءة القاعدة التي ينطلقون منها في رؤيتهم للتنمية.

(المساعدة من فوق..

والاندماج خطوة التنمية)!

معظم نظريات التنمية الاقتصادية– السوق الحر أو الدور التدخلي للدولة– تفسر العلاقة بين الرأسماليّة والفقر على أنها مبنيّة على الثنائية (إما مشمولاً بالرأسماليّة أو مقصى عنها). فيصوّر النظام الرأسمالي على أنه منبع فرص للدول الأقل نمواً، من هذا المنظور يكون مصير الدول الفقيرة أن تبقى فقيرة ليس بسبب طبيعة الرأسمالية العالمية بل بسبب امتناعهم عن الاندماج في النظام، وسياسات الاندماج كتحرير التجارة وتحرير السوق مصممة لشد الدول الفقيرة لتُسخّر وفق آليات الرأسمالية. تصوّر السوق العالمية غالباً على أنها سلم من الفرص والثروات، وخطوة على الدرجة الأولى منه كفيلة بتمكين الدول الفقيرة من التسلق والصعود ومسارعة النمو والتنمية البشريّة لشعوبها. يدافع مدير مشروع الألفيّة للأمم المتحدة (جيفري ساكس) عن استغلال العمال في جنوب العالم بقوله: (إن المصانع التي تستغل العمّال هي الخطوة الأولى نحو الخروج من الفقر المدقع)!.

فكرة أن الرأسماليّة هي الميدان الرحيم  للنشاط الإنساني تترافق مع مُسلّمة أخرى، وهي أن سياسات التنمية يطلقها لاعبون (مُنوّرون) -أنظمة، رجال أعمال، منظمات دوليّة ومنظمات غير حكوميّة- يقودون سياسات لصالح الفقراء. يطلق منظرو التنمية الاقتصادية على الفقراء مصطلح (المهمشين) الذين يحتاجون إلى (تقوية) بمساعدة (من فوق). أصحاب نظريات التنمية كالاقتصادي كـ (بول كولييه) يحاججون بأسلوب كولونيالي جديد حيث يجب أن يتم تحرير فقراء البلدان النامية من الحكام الظالمين من خلال إجراءات عسكريّة غربيّة، كما حدث في غزو بريطانيا لسييراليون في عام 2000.

أجور منخفضة وساعات عمل طويلة

بالمنظور النخبوي للتنمية، يقوم رجال الأعمال المبدعون بدعم من الحكومات (الرحيمة) بتوليد الثروات عبر الاندماج في السوق الرأسماليّة، (لتتقطّر) من بعدها هذه الثروات إلى الشعوب التي يجب أن تكون ممتنّة لتحسين معيشتها. تقوم هذه الرؤية على تناقض، فعمليّة خلق الثروة، سواءً كانت عن طريق الاندماج بالسوق الحرة أو عن طريق توليد وتوزيع الموارد من قبل الدولة، تتطلب الخضوع التام من قبل مجموع القوى العاملة لصالح أهداف النخب، لتترافق مع أجور منخفضة، ساعات عمل طويلة ورسوخ تحت ضوابط إداريّة صارمة، مع إنكار للحقوق وقمع للتحركات السياسية العماليّة.

أول تجربة نيوليبراليّة أجريت على نطاق واسع كانت في تشيلي تحت الحكم الديكتاتوري للجنرال (بينوشيه). كتب أحد الآباء المؤسسين للنيوليبراليّة فريدريك هايك: (لم أجد شخصاً في تشيلي لم يوافق على أن الحريّة الشخصيّة كانت أعظم بكثير في عهد بينوشيه من عهد الليندي– الرئيس الاشتراكي الأسبق المخلوع –) ربما من أكثر الأمثلة المثيرة حول نظام الدور التدخلي للدولة هو كوريا الجنوبيّة، والتي في السنوات بين 1960 إلى 1980 حوّلت نفسها من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي فعّال. بني هذا على أكتاف الجموع العاملة: كبت واستغلال، تم إرسال ناشطي النقابات إلى التجنيد، عانى العمال من أطول ساعات عمل في العالم، واختبرت النساء نظام تمييز جنسي متشدد.

دمج العمال في النظام هدفه التراكم

خلال العقود الأربعة الماضية تضاعفت الطبقة العاملة في العالم من مليار إلى ثلاثة مليارات. في العديد من البلدان النامية المندمجة في شبكات إنتاج معولمة، يعمل العمال في الشركات المحليّة والعالمية مقابل أجور تعادل حد الفقر،  ليتوجب عليهم أن يعملوا بعدة وظائف معاً أو بدوام إضافي، مما يؤدي لمعاناة صحيّة. الوكالة الكاثوليكيّة للتنميّة لما وراء البحار توضح في تقارير لها أن عمال الصناعات الإلكترونيّة في الصين يحتاجون لأن يقوموا بعمل إضافي غير قانوني لتصل ساعات عملهم إلى حدود 15 – 16 ساعة وذلك حتى يحصلوا على الحد الأدنى للأجور، في تايلاند يحصل عمّال العقود على الحد الأدنى من الأجور والتي لا تؤمن لهم ثمن غذائهم ومسكنهم. في بنغلادش توفي 1130 عاملاً في انهيار مصنع ينتج (لبرايمارك وماتالان) للألبسة في نيسان 2013، والعديد أيضاً توفوا في مصانع الألبسة في أنحاء البلاد.

بعيداً عن فكرة سلم الفرص، فإن العمال في شبكات الإنتاج المعولمة مندمجون في نظام اقتصادي يعيد إنتاج فقرهم لصالح استمراريّة ربح الشركات. غاية الليبراليين ومؤيدي الدور التدخلي للدولة من الدعوة إلى توسيع التكامل الدولي هي الحاجة للإبقاء على إخضاع الطبقة العاملة لمصالح التراكم الرأسمالي.

يحاجج البنك الدولي ومناصروه أن الفقر في العالم قد تراجع في ظل النيوليبراليّة، وبإمكانهم الدفاع عن هذا الطرح، طالما أن البنك الدولي يحدد خط الفقر العالمي بأجر 1.25 دولار في اليوم، والذي من المستحيل أن يكفي من أجل حياة كريمة. إذا تم تطبيق هذا الرقم وطريقة القياس على بريطانيا، فهذا يعني أن 37 شخص يستطيعون العيش بأجر بريطاني في حده الأدنى، وبدون عوائد! يقترح لانت بريتشيت وهو إقتصادي ناقد للبنك الدولي حداً للفقر أكثر إنسانيّة (10دولارات في اليوم)، ووفقاً لهذا الحد فإن 88% من شعوب العالم تعيش تحت خط الفقر..

(إذا لم تقابلوا الشعب

بإصلاحات إجتماعيّة ..)

هل من طريقة لتغيير العلاقة بين زيادة الفقر وازدياد الثروة العالميّة؟ مفهوم تنمية محورها العمل سوف يميّز أن الطبقة العاملة هي أساس توليد الثروات العالميّة. ويوضح أن تحسين سبل العيش للعاملين لا يأتي بالعمل لصالح الرأسمال العالمي، بل من خلال نضالهم من أجل أجور وشروط عمل أفضل، ملكيّة الأراضي، وديمقراطيّة اقتصاديّة وسياسيّة. لم تأت مكاسب الطبقة العاملة في أوروبا بعد الحرب العالميّة من سخاء أصحاب رؤوس الأموال والحكومات، بل كانت بسبب الإضرابات الشاملة من الشعوب. (إذا لم تقابلوا الشعب بإصلاحات إجتماعيّة، فإنهم سوف يقابلونكم بثورة إجتماعيّة) يقول كوينتن هوغ أحد قياديي حزب المحافظين للبرلمان البريطاني في عام 1943.

في الصين ازداد الحد الأدنى للأجور ولكن ببطء، إلا أن التحسينات التي تحققت لحقوق العمّال حصلت بعد حدوث ما تسميه الحكومة الصينيّة (أحداث الشغب الجماعيّة). في البرازيل، تم اكتساب ملكيّة الأرض، ليس من خلال النمو الاقتصادي أو السياسات الحكومية الرحيمة بل من خلال إضراب مئات الألوف من العمال مسلوبي الأراضي. في الأرجنتين، وعلى إثر الأزمة الاقتصاديّة في عام 2000 كان رد العمّال على البطالة بأن استولوا على المصانع. في العديد من هذه المصانع ارتفعت نسب الإنتاجيّة والعمالة والأجور بعد أن مارس العمّال درجة لا مثيل لها من – ديموقراطيّة مكان العمل –، وتحققت حوافز حقيقية تدفعهم للتعاون لتحسين عملهم، كونهم هم المستفيدين المباشرين من العمل.

رؤية جديدة: (تنمية محورها العمل)

إن تنمية محورها العمل، تراعي ازدياد وقت الفراغ لدى العمّال، وقدرتهم على التحكم بعملية إنتاج وتوزيع الثروة بديمقراطيّة، بدلاً من الحث المستمر لزيادة تراكم رأس المال، واعتباره الأساس الحقيقي للتنمية البشرية. هذه الرؤية تعتبر الطبقات العاملة في البلدان الناميّة مهندسة نموها الخاص.

يشرح أصحاب هذا التيّار كيف يمكن للطبقة العاملة أن تكون أداة التنمية في التطور الاقتصادي. ويرون أن هذه الطبقة تعتمد اليوم على النخب العليا لتحصل على خلاصها. لقد حان الوقت للتفكير كيف يمكن للغالبيّة أن تناضل لتنميتها من أجل مصلحتها..

هوامش :

بين سيلوين: محاضر أستاذ في النمو العالمي في مركز الدراسات العالميّة، جامعة سوسيه، ومؤلف كتاب أزمة التنمية العالميّة، بوليتي، كامبريدج، 2014.