عقبتان رئيسيتان تفرغان آلية توزيع الدعم عبر «البطاقة الذكية» من مضمونه! التطبيق التجريبي على محافظة واحدة سيساهم بتلافي أخطاء قاتلة..
يبدو الحديث عن مشروع إطلاق «البطاقة الذكية» كآلية لتوزيع الدعم على المازوت والمشتقات النفطية بالدرجة الاولى، مجرد رؤية نظرية في بيئة وهمية لا وجود لها أساساً، والقضية هنا، لا ترتبط بإمكانية نجاح هذه الآلية التي أثبتت جدواها في تجارب عالمية سبقتنا على هذا الصعيد، بل إن القضية ترتبط وبالدرجة الأولى بالعجز عن تجهيز البنية التحتية لهذا المشروع في ظل حالة عدم الاستقرار التي تعيشها أغلب المحافظات السورية، وحالات النزوح الكبيرة، وما يفرضه ذلك من صعوبة تكوين مثل هذه البنية التحتية التي من دونها لن يرى هذا المشروع النور على الإطلاق، من جهة، وغياب شبكة الصرافات الآلية من جهة أخرى، واللذين سيشكلان عقبة رئيسية بوجه تطبيق فاعل «للبطاقة الذكية»، وبما يفرغها من مضمونها..
غياب شبكة الصرافات الآلية
البنية التحتية التي نتحدث عنها، تنطلق من إمكانية إنشاء شبكة صرافات آلية تتبع للمصارف الحكومية (التجاري والعقاري بالدرجة الأولى) قادرة على تغطية ملايين «البطاقات الذكية» التي ستوزع على الأسر في مختلف المحافظات، والتي سيحصل من خلالها السوريون على الدعم، لأن فكرة «البطاقة الذكية» تستند إلى رفع أسعار المازوت لحدود المستوى العالمي (40 ل.س)، وبهذا تتكفل الدولة بدعم مازوت التدفئة بنحو 17 ل.س على الليتر الواحد، وهو الفارق بين السعر الحالي أو المدعوم والسعر العالمي، على أن يحدد استهلاك الاسرة الواحدة سنوياً بنحو 800 ليتر، وبذلك تحصل الأسرة الواحدة عبر هذه الصرافات عن طريق البطاقة الذكية على دعم نقدي بحدود 800 × 17= 13600 ل.س سنوياً، والتي سيجري توزيعها على دفعات إما شهرية أو ربع سنوية، إلا أن هذا التشخيص النظري سيصدم بواقع غياب الشبكة المصرفية القادرة على الاستيعاب والتغطية الجغرافية لملايين «البطاقات الجديدة»، ففي بعض المدن الصغيرة لا وجود سوى لصراف آلي واحد، وهذا سيشكل عقبة أمام تفعيل «البطاقة الذكية»، وما يؤكد حديثنا عن أهمية البنية التحتية تلك التي ستعيق تنفيذ هذا المشروع عملياً، هو الازدحام الكبير الذي تشهده الصرافات الآلية في مطلع كل شهر، وهي المخصصة حالياً لعشرات آلاف أو مئات آلاف فقط من الموظفين والمتقاعدين الذين يتقاضون رواتبهم الشهرية عبر تلك البطاقات، فكيف ستكون الحال إذا ما اعتمدت هذه الآلية في ظل الشبكة المصرفية الحالية؟! وأكاد أجزم أن توسيع شبكة الصرافات الآلية بنحو 10 أضعاف ضرورة لتغطية مثل هذا المشروع الحكومي، وإلا فإن اعتماد «البطاقة الذكية» في ظل الشبكة المصرفية الحالية سيفجر أزمة طوابير جديدة في البلاد دون شك!..
أخطاء بقاعدة البيانات
المعضلة الأساسية الأخرى تتمثل بتحديد بيانات قائمة مستحقي الدعم من الأسر السورية، وهي التي ستشكل عائقاً في وجه ضمان وصول الدعم لمستحقيه الحقيقيين، لأنها تتطلب قاعدة بيانات دقيقة وحقيقية على مستوى البلاد، وهي غير متوفرة بيد الحكومة حالياً، كما أن تجربة الحكومة في الماضي القريب لا تشجع كثيراً على هذا الصعيد، ولنتذكر فقط أن نسبة صحة المسوح في آلية المعونة الاجتماعية، وبالطريقة التي جرى فيها توزيع المبالغ لم تتجاوز 18 %، أي أن هامش الخطأ كان 82%، وهذا ما منع إيصال المعونة إلى الأسر الفقيرة في المحافظات، فمن سيضمن عدم تكرار هامش الخطأ ذاته في المسوحات الحالية التي تجري بهدف تكون الأرضية المعلوماتية لإطلاق «البطاقة الذكية» بهامش خطأ لا يتجاوز 1 – 2% في هذه البيانات؟! لأن العقبة الاساسية الأخرى في طريق تطبيقها، تتجسد في إمكانية إعداد قاعدة بيانات وطنية، تستند إلى معطيات حقيقية للاستفادة منها في إيصال الدعم لمستحقيه الفعليين، والتي من دونها ستفرغ «البطاقة الذكية» من مضمونها، وهي الحد من الفساد الذي اكتنفت آليات توزيع الدعم على المازوت في السنوات السابقة بدءاً بالقسائم وصولاً للدعم النقدي والمعونة الاجتماعية، فهل ستتكرر أخطاء الماضي في التجربة الحالية؟!
تطبيق «البطاقة الذكية» بشكل تجريبي
مع الصعوبات الكبيرة التي يمكن أن تكتنف آلية تطبيق «البطاقة الذكية» في البلاد، والتي يمكن أن تفرغها من مضمونها، يعتبر مراقبون أن الحل الأفضل هو تطبيق البطاقة الذكية بشكل تجريبي على محافظة بعينها، واستخلاص النتائج والأخطاء منها كمرحلة أولى، وهي ما جرى تطبيقها في مصر على محافظة بعينها ثم شملتها فيما بعد لتعمم البطاقة على ثماني محافظات، وهي الأنسب في ظل الظروف التي تعيشها البلاد حالياً، أما إذا أردنا الحديث عن الشمولية، فإن الأمر ذاته ينطبق أيضاً، فالبدء بتوزيع دعم المازوت كمرحلة أولى عبر «البطاقة الذكية»، ومن ثم استتباعها بمراحل أخرى، تشمل أسعار المواد المدعومة، وباقي الخدمات الحكومية كالتعليم والصحة، ففي البلدان الأوروبية وأمريكا تستخدم «البطاقة الذكية» لاستلام الرواتب، وفي الباص و«التكسي»، وفي جميع الأسواق أيضاً، لدرجة أن التعامل النقدي يكاد يكون محدوداً في هذه البلدان مثلاً، وهذا ما لا يمكن تنفيذه إلا بخطة استراتيجية قد تحتاج لخمس سنوات تقريباً..
وماذا عن الأسعار؟!
رفع سعر المازوت إلى مستويات السعر العالمي، وتطبيق «البطاقة الذكية» في مجال الدعم، لن يحل المشكلة، لأن لرفع سعر المازوت تأثيره على النقل، وعلى القطاع الزراعي والصناعي، وعلى ارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية أيضاً، وكل ذلك يشير إلى ضرورة التعويض النقدي عبر «البطاقة الذكية» عن هذه الارتفاعات في مختلف المجالات المتأثرة، وإذا ما افترضنا أن التعويض سيكون بدعم السائق في مجال النقل، بإعطاء الفارق الحاصل في السعر مقابل إبقاء تعرفة النقل على حالها، فإن ذلك يتطلب قاعدة بيانات فيها الكثير من الشفافية، وهي غير متوفرة لدى الطرف الحكومي على الغالب، وكذلك هو حال القطاع الصناعي، حيث يفترض أن تتلقى المنشآت التي تعمل على المازوت دعماً عبر «البطاقة الذكية» أيضاً، ويمثل غياب قاعدة المعلومات كحاجز وعائق أمامها التطبيق الفعال لها، ولكن التساؤل الأساس: كيف سيجري التعويض عن ارتفاعات الأسعار الحاصلة لا محال؟! ومن هي الجهات التي سيتم التعويض لها في هذه الحالة؟! وهل ستسعى الحكومة لتجميد الأسعار مقابل التعويض للتجار عن الفارق مثلاً؟! وهل يعتبر هذا بحد ذاته ممكناً؟! أم أن المستهلكين سيكونون الخاسر بلقمة عيشهم من وراء تطبيق هذه الآلية في توزيع الدعم إذاً؟!
«العبرة بالتطبيق»
لا يعتبر حديثنا عن العقبات التي تقف بوجه تطبيق «البطاقة الذكية» في مجال توزيع الدعم من باب الرفض المبدئي لها، لأن الوقائع تؤكد حجم الوفر الذي ستحققه هذه الآلية في مجال الحد من تهريب المازوت، حيث سيتوقف جزء كبير منه، رغم معرفتنا ببقاء بوابة التهريب مفتوحة على مصراعيها عبر تركيا حتى مع رفع الأسعار إلى مستويات عالمية، وهو ما قد يقلل من فاعلية القرار على هذا الصعيد، ولكن وفراً ما سيتحقق بالتأكيد، وانخفاض استهلاك البنزين بنحو 20 مليون لتر يوميا في إيران بعد تطبيق مشروع البطاقة الذكية محفزاً على تطبيق «البطاقة الذكية»، ولكن يبقى التطبيق الفاعل لهذه الآلية الذي يعود بالنفع على السوريين بأغلبيتهم عبر هذه الآلية، هو الحكم الفصل على هذا الصعيد، لأن العبرة بالتطبيق في نهاية المطاف!..