الدباغات في سورية.. حرفة تواجه الزوال

الدباغات في سورية.. حرفة تواجه الزوال

دباغة الجلود إحدى أقدم الحرف الموجودة في سورية، الحرفة التي تعود لعصر إنسان الكهوف، منذ أن بدأ الإنسان بصيد الفرائس واستخدام جلودها كلباس له تشكلت معالمها الأولى. أما في سورية فقد صنفت الدباغة لعدة سنوات بالمرتبة الثالثة بعد النفط والقطن في الصادرات السورية بتحقيق قيمة مضافة مقدرة بنحو 1,2 مليار ليرة سورية، تطورت مع السنوات لتتحول إلى صناعة متطورة منتجاتها مرغوبة في أصقاع البلاد العربية والأوروبية..

وتعتبر مدينة دمشق المركز الأساسي لهذه الحرفة، حيث كانت الدباغات في منطقة باب السلام، وبعدها انتقلت إلى الزبلطاني حيث يمر نهر بردى ليوفر للدباغين الذين وصل عدد ورشهم ومعاملهم إلى 240 دباغة مادتهم الأساسية في العمل، وهي الماء، أما في الوقت الراهن فقد انتقلت الدباغات إلى المدينة الصناعية بعدرا وعددها حوالي 100 معمل، كما يوجد في حلب حوالي 30 معملاً.. أما اليوم فإن 80% من الدباغات قد توقفت، وتراجع الإنتاج بنسبة 90% خلال الأزمة، بينما الدبّاغون السوريون المنتقلون إلى دول مجاورة أثروا تأثيراً نوعياً في تقدم إنتاج هذه الدول، وفي تراجع الإنتاج السوري..

نلقي الضوء على هذه الحرفة السورية الهامة، من خلال شهادات من حرفيي دمشق :

تفاصيل «الصنعة» قبل الأزمة وخلالها

ينقسم عمل الدباغات إلى ماهو مختص بجلود العجل والأبقار، وبعضها مختص بجلد الغنم، والبعض بجلد الماعز أو الجمل. ويصلح جلد العجل لصناعة الأحذية الرجالية والنسائية، وصناعة المفروشات والحقائب والأحزمة، بينما يصلح جلد الغنم لصناعة الألبسة، أما جلد الماعز فيدخل في صناعة الأحذية والبطانة داخل الحذاء، فيما يصنع من جلد الجمال القشط والأحزمة المستخدمة لوضع عدة النجارين والحدادين.

مواد العمل والأسعار

وحول الصعوبات المتعلقة بتأمين مواد العمل، قال الدباغ مازن ثلجة "هناك صعوبة بتأمين الجلد، فقد كان يأتي من حمص وحماة والرقة ودوما حيث مناطق التربية والمسالخ، فعلى سبيل المثال في دوما كان يذبح يومياً 150 عجلاً، أما حالياً لا يذبح أكثر من 10 عجول، ما أدى بالتالي إلى مضاعفة السعر، فكنا نأخذ طن الجلد بدمه بـ 80 ألف ل.س، واليوم يطلبون 160 ألفاً، فضلاً عن ارتفاع سعر المواد المستخدمة في الدباغة، فهي مواد مستوردة من الصين وايطاليا وألمانيا والهند ومسعرة بالدولار، مثل مادة سلفيد الصوديوم المعروف باسم الزرنيح والصباغ يأتي من الصين، كان سعر الكيلو الواحد 90 ليرة، أصبح حالياً 700 ليرة، وهي مادة شبه ممنوعة الدخول إلى سورية، لأنها تدخل في صناعة الأسلحة، كما هناك زيوت دباغة من ألمانيا، وكروم الميتان من تركيا وجنوب إفريقيا".

وفيما يتعلق برفع سعر الجلد المصنع، أكد ثلجة أنهم لم يرفعوا السعر بما يغطي التكاليف، ومع ذلك لم يتقبله السوق الداخلي، فقد أصبحت تكلفة قدم الجلد المصنع 70 ل.س، بعد أن كانت 40 ل.س، إضافة إلى انقطاع كل خطوط التصدير إلى لبنان والأردن والعراق ودول الخليج وأوروبا وشمال إفريقيا، علماً أن الطلب مازال على جلودنا لكننا غير قادرين على تلبيته، فقد خف الإنتاج بنسبة 90% خاصة مع عدم تأمين المواصلات للمدينة الصناعية وخطورة معظم الطرق، لذلك نحن غير قادرين على السير بالعمل لأن الجلد بحاجة لحوالي شهر ونصف ليتحول إلى جلد صالح للصناعة، وهذه الفترة كلها تكلف الكثير مالم تكن المراحل العشر الأساسية في الصناعة مليئة بالمادة، كي لا يحدث خلل.

الجلد السوري المتميز.. بلا دعم

أما عن سوية الجلد السوري في السوق العالمية، فأكد السيد مازن أن "الجلد السوري أفضل جلد في العالم سواء كان بقراً أو غنماً، وتعتبر مع مصر الأولى في العالم العربي، ومع ذلك نمتاز عن مصر بجلود العجل بينما تعتمد مصر على جلد الجاموس الأقل جودة، فالجلد السوري بات يعادل الجلد الإيطالي خاصة بعد أن استخدمنا المواد المستوردة، لكن بالنسبة لحداثة الآلات، فما زال الإيطاليون يتفوقون علينا"، مشيراً إلى أن "الحرفة كانت في أوجها قبل الأزمة، وكنا على وشك إنشاء مختبرات جودة إيطالية، لأن منتجاتنا مطلوبة بشدة لفرنسا وروسيا وايطاليا وألمانيا".

وتوجد في مدينة دمشق دباغات لكل أنواع الجلد، حيث تعتمد الأردن ولبنان ومدينة حلب في قوتها الشرائية على منتجات دمشق ومصانع الأحذية التي تغذي دول شمال إفريقيا والخليج وغيرها، إلا أن 80% من الدباغات توقفت عن العمل، بينما يستمر بالعمل فقط حوالي 10 معامل دباغة، ثلاثة منها مختصة بجلد الغنم، وتصدر إلى إيطاليا، وثلاثة أخرى لجلد البقر، و معملين أو ثلاثة تعمل للسوق المحلية.

ولفت الدباغ مازن ثلجة إلى أن "حرفة الدباغة لم يكن لها أي نوع من أنواع الدعم الحكومي لا سابقاً ولا حالياً، فلم نكن نتمكن من الحصول على ترخيص إداري عندما كنا في منطقة الزبلطاني باعتبارنا حرفة ملوثة للبيئة، والشيء الجيد في المدينة الصناعية هو وجود محطة تحلية للمياه تم إنشاؤها عام 2008 بكلفة 15 مليون ليرة سورية".

وبدأت الصناعات في مدينة دمشق تتأثر بالأزمة منذ حوالي سنة فقط، بعد أن هاجر الكثير من الصناعيين ومنهم دباغون إلى الدول المجاورة، فالأردن على سبيل المثال لم تكن تملك دباغة واحدة وتعتمد على الجلد السوري، أخذت مكان سورية في تصدير الجلود إلى الخليج وشمال إفريقيا بعد أن استقر فيها كبار الدباغين السوريين، كما باتت تركيا تتولى مهمة تغذية دول أوروبا وروسيا بالجلد بدلاً من سورية، بسبب ما خسرناه من رؤوس أموال وصناعيين بمهاراتهم وخبرتهم.

حرفيو دمشق:

من باب السلام إلى الزبلطاني إلى عدرا.. مسيرة زيادة التكاليف

مازن ثلجة أحد الدباغين في دمشق الذي تعلم الحرفة من صغره، وأصبح يملك معملاً للدباغة، حدثنا عن معاناتهم في المنطقة الصناعية والتي تضاعفت مع تأثير الأزمة في سورية.

 وقال السيد ثلجة إنه "ينقصنا في المدينة الصناعية أهم عنصر في عملنا، حيث لا يوجد مياه هناك منذ 8 أشهر، وقدمنا شكوى لمحافظ ريف دمشق الذي طالب إدارة المدينة الصناعية بتأمين المياه، لكن المشكلة الأساسية أن تأمين الماء صعب، وكان هذا خوفنا من البداية قبل الخروج من منطقة الزبلطاني، حيث تم نقلنا بشكل إجباري بحجة البيئة".

وتابع ثلجة إن "المنطقة الصناعية تعتمد على مياه الغوطة، لكن سوء الأوضاع جعل من الصعب الاستمرار في استجرار الماء من هناك، فاستعانوا بعدة آبار في منطقة الجبل لكنها غير كافية للمدينة كاملة، فتم اعتماد جدول يخصص كل صناعة بيومين في الأسبوع لتزويدها بالماء، إلا أنهم لم يلتزموا بالتنفيذ، فكان الحل الأخير الاستعانة بالصهاريج لنقل الماء بتكلفة 22 ل.س/ ليتر، لكن أصحاب الصهاريج يطلبون 80 ل.س/ ليتر، وأصبحت تكلفتنا اليومية لتأمين الماء فقط 10 آلاف ليرة سورية".

وشرح السيد مازن التكاليف العالية المترتبة على الدباغين والتي تصل إلى 97 مليون ليرة كرسوم، وقال "سجلنا  للانتقال للمنطقة الصناعية عام 2005 ضمن المرحلة الأولى المعفية من الضرائب والرسوم، لكن تأخرت المعاملات لديهم حتى 2007، ولدى انتقالنا تفاجأنا بمرحلة ثانية غير معفية من أي شيء، وطلبوا مبلغ 3 آلاف ليرة كرسم محيط على كل كافئة كهرباء، والمعمل بحاجة للكهرباء بشدة، وبذلك أصبح علي أن أدفع مبلغ 600 ألف ليرة كوني مسجلاً على 200 كافئة"، منوهاً إلى أن "محولة الكهرباء في المصنع تكفلت بمصاريف إنشائها ثم وقعت على عودة ملكيتها للدولة حسب طلبهم".

وبين ثلجة أن "بعض المعامل تعتمد العدادات المؤقتة، لكن إدارة المدينة قامت بإزالة كل العدادات، مطالبة ببناء محولة لكل معمل، علماً أنها تكلف 2 مليون ليرة، وهذا المبلغ حالياً يعد عبئاً على الحرفيين"، ومع ذلك كان رد مدير المدينة "من لا يملك المال فليتوقف عن العمل". "وعند إيصال الشكوى لوزير الإدارة المحلية بأننا مرحلة أولى، ومعفون من الضرائب والرسوم، قرر أن يتكفل هو أو محافظ الريف بدفع الرسوم، ولكن ذلك لم يحصل حتى الآن وما زالت المدينة الصناعية تطالبنا بالدفع" أردف ثلجة.

مصائبُ قومٍ..

منذ حوالي السنة كانت الأردن لا تملك دبّاغة واحدة، وتعتمد على الجلد السوري، اليوم أخذت الأردن مكان سورية في تصدير الجلود إلى الخليج وشمال إفريقيا بعد أن استقر فيها كبار الدباغين السوريين، كما باتت تركيا تتولى مهمة تغذية دول أوروبا وروسيا بالجلد بدلاً من سورية، بسبب ما خسرناه من رؤوس أموال وصناعيين بمهاراتهم وخبرتهم.. بينما تراجعت الدباغة في سورية بنسبة 90% وبقي 10 معامل من أصل 100 معمل..