التحولات الاقتصادية والاجتماعية.. وبروز ظاهرة «مجتمع المخاطر»
شهدت بلدان أوروبية عديدة، تحركات اجتماعية احتجاجية، في مواجهة التدابير التقشفية التي اتخذتها حكومات تلك البلدان في إطار معالجة ديونها وأوضاعها الاقتصادية المتدهورة، المتمثلة في العجوز الاقتصادية والمالية في موازينها الاقتصادية والتجارية والمالية. وتحت ضغط المؤسسات الدولية والتزاماتها تجاه الاتحاد الأوروبي بشأن خفض عجز الموازنة إلى الحدود التي نصت عليها اتفاقية الاتحاد الأوروبي (أي إلى حدود 3%) ومن أجل الحصول على قروض جديدة ومساعدات، لجأت تلك الدول إلى تخفيض الإنفاق العام وزيادة معدلات الضريبة، وخفض الرواتب والأجور، في ظل حالة من الركود الاقتصادي. مما أدى إلى حركة الاحتجاجات العمالية والطلابية التي شهدتها شوارع المدن الأوروبية في اليونان وإسبانيا وبريطانيا وإيرلندا ورومانيا وغيرها. وقد رافق ذلك أعمال عنف من خلال ممارسات قوات الأمن التي عملت على مواجهة التظاهرات بالقوة والاعتقالات والتهديدات.
ولم تخلُ الحركات الاحتجاجية من مواقف مأساوية، ففي واحدة من هذه المواقف شهد البرلمان الروماني في بوخارست، عملية احتجاج درامية حيث قفز موظف في التلفزيون الحكومي الروماني، من شرفة البرلمان احتجاجاً على التدابير التقشفية والغلاء وارتفاع الضرائب. فيما كان رئيس الحكومة يدافع عن هذه الإجراءات أمام البرلمان، في حين صاح الرجل وهو يقفز إلى وسط القاعة "قتلتم مستقبل أولادنا وبعتمونا"
ومن بوخارست، إلى مدينة «سيدي بوزيد» في تونس، إلى أصقاع المعمورة، حيث يتربع «اقتصاد السوق» وتسود قوانين الرأسمالية الجائرة، تمتد حركة الاحتجاج، وتأخذ ذلك الطابع المأساوي، ففي تونس التي يتغنى بتجربتها الاقتصادية بعض الاقتصاديين والمسؤولين الحكوميين في بلادنا، خاصة من خلال «ما حققته» من انتصارات اقتصادية مزعومة في انضمامها للشراكة الأوروبية المتوسطية، في حين تتعاظم الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن سياسات اقتصاد السوق والانفتاح والالتحاق بالعولمة بواسطة الشراكة الأوروبية، وتبدو المأساة من خلال قيام المواطن التونسي (محمد البوعزيزي) بحرق نفسه، احتجاجاً على ما يعانيه وأمثاله العديدون من مهانة وإذلال نتيجة البطالة والفقر. فهو خريج جامعي، لم يتمكن من الحصول على عمل يتناسب مع مؤهله الجامعي، فلجأ إلى العمل كبائع خضار وفواكه على عربة، إلا أن موظفي البلدية، الذين يأتمرون بمصالح أصحاب المحلات والدوائر البيروقراطية، لا يروقهم ذلك فيصادرون عربته، وهي مصدر رزقه، وعندما يحاول تقديم الشكوى إلى المحافظ (أو الوالي) يرفض المسؤول مقابلته، إذ لا يليق به أن يقابل أمثاله ليقف على شكواه، وأمام إغلاق الأبواب في وجهه، لا يجد سبيلاً سوى الانتحار حرقاً، ليتخلص من المهانة والذل والحاجة والفقر والظلم.. ويحرك هذا الحدث المأساوي مشاعر الناس فيتحرك الشارع في المدينة، لتبدأ مرحلة مواجهات بين الفئات المحرومة من الشعب وجلاوذة الحكم وعسكره الذين لا يتورعون عن استخدام العنف في مواجهة الشعب الأعزل، فيسقط أحد الشباب شهيداً فضلاً عن عشرات الجرحى والمعتقلين، ويتصاعد غضب الناس، في مقابل تجاهل الحكومة التونسية للمطالب الشعبية.
إن الصرخة التي أطلقها الشاب الروماني الذي ألقى بنفسه، من شرفة البرلمان في بورخاست، ورائحة الدخان المنبعثة من جسد محمد البوعزيزي وهو يحترق في سيدي بوزيد، وتفجر أحداث الاحتجاج الاجتماعي في شوارع المدن الأوروبية، وفي الشوارع التونسية وفي شوارع القاهرة، جميع هذه الأحداث تعكس حالة الإحباط واليأس التي وصلت إليها معاناة الناس من السياسات الاقتصادية والمالية التي تتبعها الحكومات في ظل إيديولوجية السوق الليبرالية الاقتصادية الجديدة. والتي أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة، واتساع دائرة الفقر، وسط حالة اللامبالاة والتهميش التي تفرضها الحكومات، تجاه المطالب الشعبية في تحسين أوضاعها المعيشية وإيجاد فرص العمل لجيش العاطلين، والإمعان في السياسات المحابية للأغنياء، وفرض حالة من الحصار الأمني على المطالبين بتوفير فرص العمل للعاطلين وتمكينهم من كسب عيشهم بكرامة، وتخليصهم من براثن الفقر والعوز.
لقد جاءت التحولات الاقتصادية والاجتماعية، التي اكتسحت العالم، نتيجة لمجموعة من المتغيرات، التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط النظام ثنائي القطبية وبروز العالم الأحادي القطبية الذي انفردت فيه الولايات المتحدة بالهيمنة على النظام العالمي، في محاولة لفرض جدول أعمالها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على دول وشعوب العالم من خلال الترويج للعولمة ولاقتصاد السوق، في سعي محموم إلى خلق سوق عالمية واحدة واقتصاد نمطي واحد تحكمه قوانين ومعايير منظمة التجارة العالمية ومصالح الشركات متعدية الجنسية، وأهواء وميول القابعين في «وول ستريت» وكواليس البورصات العالمية.
إن هذه التحولات، التي أصابت الاقتصادات الموجهة من الدولة التدخلية، ودولة الرفاه الاجتماعي، هي التي أدت إلى بروز ما يدعى بـ«مجتمع المخاطر» أي إلى الانتقال من مجتمع يسوده الأمن النسبي والسلم الاجتماعي، إلى مجتمع تحكمه المخاطر، حيث تتزايد في المجتمع الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، وتزداد معدلات البطالة خصوصاً بين الشباب، وتتسع دائرة الفقر والحرمان، ومع تزايد جيوش العاطلين عن العمل، يتسع إطار الاقتصاد الأسود، وتزداد الجرائم والاتجار بالممنوعات ويعمم الفساد.
إنه تهديد صارخ للسلم الاجتماعي، ومع تزايد حالة الغضب المكبوت، تتزايد احتمالات الانفجار، مع تصاعد الأزمات الاقتصادية المتمثلة بالركود وتفاقم العجوزات الاقتصادية والمالية. إنه فعلاً «مجتمع المخاطر» مخاطر الشك وعدم اليقين بالحاضر وبالمستقبل، مما يقود إلى الإحباط واليأس والجريمة.
والحالة في تونس ليست حالة فريدة في البلدان العربية، فجميع هذه البلدان تعاني من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن السياسات الاقتصادية والليبرالية الجديدة، سواء كانت مفروضة من المؤسسات المالية الدولية، أو من الاتجاهات الأيديولوجية الحاكمة لتوجهات السياسات الحكومية. وإذا أخذنا حالة تونس كنموذج كان سباقاً في الانضمام إلى الشراكة الأوروبية والرضوخ لمتطلباتها في التحول نحو اقتصاد السوق والانفتاح التجاري والاقتصادي، فسنجد أن معدل البطالة وصل إلى 14,2% من قوة العمل التونسية (2008) أي نحو 223 ألف عاطل عن العمل في بلد يزيد عدد سكانه عن عشرة ملايين نسمة، مما يعني أن كل شخص يعيل بمعدل 2,2 شخص إلى جانبه هو نفسه، مقارنة بنحو 1,2 إلى جانب العامل نفسه في المتوسط العالمي. ومن بين العاطلين عن العمل في تونس 93% هم من خريجي الجامعات، مما يعني حالة فريدة للوضع التونسي، فمما لا شك فيه أن جانب مهم من العاطلين عن العمل في البلدان العربية هم من الشباب ومن الخريجين، لكن لم تصل نسبتهم إلى ما وصلت إليه في تونس.
والبيانات المنشورة من قبل منظمة العمل العربية، تشير إلى أن عدد العاطلين عن العمل (وفق البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومات العربية) بلغ 14 مليون عاطل، وإن معدل البطالة بلغ نحو 14,4% من قوة العمل. لكن الواقع يشير إلى أن عدد العاطلين عن العمل ومعدلات البطالة تفوق كثيراً الأرقام الرسمية، إذ تعمد الحكومات العربية إلى إصدار بيانات وأرقام مغايرة للواقع بهدف تحسين صورتها أمام الرأي العام المحلي والخارجي. وللتستر على عيوب السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة التي تتبعها.
وإذا كانت الدول النفطية، قادرة على امتصاص الآثار السلبية لسياساتها الاقتصادية (مؤقتاً)، باستخدام أموال عائدات النفط، فإن ذلك غير ممكن في البلدان غير النفطية، إن تصاعد أعداد العاطلين عن العمل، يمثل، بوجه عام، إهداراً لعنصر العمل العربي الذي يعتبر العنصر الأكثر فعالية من بين جميع عناصر الإنتاج، مما يفاقم في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وفي إفقار المجتمع ككل مما يؤدي إلى تهديد صارخ للسلم الاجتماعي، ويشكل الأرضية الخصبة لانتشار الأمراض الاجتماعية وتصاعد العنف الجنائي والسياسي، خاصة مع عدم وجود نظام لإعانة العاطلين من قبل الدولة.
ومما يزيد من مرارة الموقف، عدم وجود أفق عربي موحد لمواجهة هذه المشكلة على نحو جماعي، وفي إطار من التعاون العربي، ففي الوقت الذي تتفاقم فيه مشكلات البطالة في أغلب الدول العربية، فإن دول الخليج تستخدم نحو 14 مليون عامل آسيوي على الأقل، من مختلف مستويات المهارة، وبما في ذلك العمالة غير الماهرة، مما يضع في سياق هذه المسألة، قضية التنسيق والتعاون العربي الاقتصادي والاجتماعي لحل، ليس فقط مشكلة البطالة، وإنما لوضع الاقتصادات العربية على مسار التنمية والتكامل. الأمر الذي يتطلب إعادة نظر جذرية بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، ورسم آفاق المستقبل انطلاقاً من المصالح الوطنية والقومية.