ما هي الرسائل الفرنسية من تكرار الحديث عن مظلتها النووية؟

ما هي الرسائل الفرنسية من تكرار الحديث عن مظلتها النووية؟

لم تمض عدة شهور على قدوم «المسيح الثاني» كما يصفه أنصاره «دونالد ترامب» حتى ترك خلفه بالفعل عدة اتجاهات واضحة: سياسة الحماية المفرطة الشرسة، الانكفاء الداخلي، تدمير الشراكات السياسية والاقتصادية التي أصبحت من الماضي، وبناء شبكة علاقات دولية جديدة. بالنسبة للرئيس الأمريكي شركاء الأمس أصبحوا أعداء، الجميع أصبحوا بالنسبة له مدينين له بحياتهم، أو على الأقل بالمال، وقد حان الوقت لتسوية الحسابات.

ويأتي الحديث الفرنسي عن المظلة النووية البديلة لأوروبا ضمن هذا السياق؛ فالأوروبيون يفضلون دخول سوق البازار الأمريكي، وفي جعبتهم بعض نقاط القوة.

سباق الفرنسيين مع الزمن

في أوروبا نقف أمام منظومتين مختلفتين متناقضتين، يجمعهما الاتحاد الأوروبي الأولى: غرب القارة «ألمانيا وفرنسا وبريطانيا». الثانية: شرق القارة، حيث تشكل أسواق شرق القارة مصدراً أساسياً للاستغلال من قبل غربها، بينما تلعب تلك الأسواق دوراً ثانويا مع أمريكا، ومن هنا يأتي إصرار غربي القارة على الامتداد شرقاً، لقد كان مفهوماً أن الغرب الجماعي سعى بكل قوته للحصول على الجائزة الكبرى، وهي روسيا، فروسيا كانت ستشكل له مصدراً من الطاقة والقوى المنتجة ما يكفي للخروج من الأزمة الاقتصادية الأوروبية الغربية لعقود قادمة، لكن بعد المعركة في أوكرانيا ونتائجها والانسحاب الأمريكي القادم المرتقب، أصبح الحلم الأوروبي الغربي هو بقاء الكتلة الشرقية بمواردها وأسواقها تحت الهيمنة الغربية، علها تستطيع تحمل مفاعيل الانهيار كضحايا لأزمة الاقتصاد العالمي، من خلال الحديث عن إمكانية خلق آلية جديدة بديلة للردع النووي. والحديث عن المظلة النووية في محاولة من جهة لتخفيف الابتزاز الأمريكي، ومن جانب آخر لمنع حدوث تصدعات في موازين القوى في شرق أوروبا.

ماذا يجري خاصة في فرنسا؟

هناك بشكل خاص ما يميز فرنسا عن الدول الغربية الأخرى، غير أنها قد فقدت مكانتها الدولية، وتقلص حجم ناتجها الصناعي الإجمالي، وغير أنها تلاقي منافسة شديدة في الأسواق العالمية، لكن لا تشكل هذه العوامل المشتركة في الاتحاد الأوروبي نقطة الانطلاق الرئيسة لفهم التوحش لدى البرجوازية الفرنسية، نقطة الانطلاق الأساسية هي: أن فرنسا لديها أقل معدل ربح في غرب القارة، ما يجعلها خاصرة رخوة اقتصادياً، ومكاناً طارداً لرؤوس الأموال.

فرنسا: أدنى معدل ربح في أوروبا

في عام 2023، بلغ معدل الربح في فرنسا 32.7% من القيمة المضافة الإجمالية، وهو الأدنى بين دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، وأقل بكثير من المتوسط الأوروبي البالغ 41.3% وفي الربع الأول من عام 2023، سجلت الشركات الفرنسية (باستثناء قطاعات الطاقة والنقل) أدنى هامش ربح منذ منتصف الثمانينيات، خاصة في قطاع الخدمات الاستهلاكية.

والوضع لا يختلف كثيراً في القطاع المصرفي الفرنسي، ففي الربع الثاني من عام 2024، سجلت البنوك الفرنسية أدنى هامش صافي فائدة (NIM) بين الدول الأوروبية الكبرى، بنسبة 0.9%، مقارنة بـ1.2% في ألمانيا و4.4% في كل من بولندا والمجر.

تشير هذه الأرقام إلى حجم الاستنزاف الذي تتعرض له فرنسا، ففي هذا المستوى المتدني من الربحية، سيكون هناك مع الوقت إنزياح للرساميل منها الى الدول الأعلى ربحية، مما يعني انكماشاً اقتصادياً وأزمة اجتماعية. أي أن فرنسا تشكل حلقة أضعف في المركز الغربي، يضاف إليها تناقضات حادة سياسياً واجتماعياً، فهناك برلمان منقسم بشدة، ولدى قوى اليسار والقوى الثورية تمثيل شعبي وبرلماني واسع يعكس حجم التناقضات الاجتماعية، وعدم قدرة البرجوازية على السيطرة الشاملة.

هذا يفسر بشكل واضح الإصرار الفرنسي على استمرار المعركة مع الروس حتى في حال الانسحاب الأمريكي، فماركس يقول: إن ميل معدل الربح للانخفاض تدريجي، ويتأثر بما يسميه العوامل المقاومة التي تحاول فرنسا العمل عليها رغم تقلص إمكانيتها التي قد تعوّض الانخفاض لفترة، مثل:

  • رفع معدل الاستغلال (زيادة ساعات العمل أو تقليل الأجور) ويجري من خلال التضخم، لكنه خطير
  • اجتماعياً، قد يفجر الوضع السياسي الفرنسي القلق جداً.
  • خفض كلفة المواد الخام، وتتم إعاقته من خلال نزعة دول الجنوب لبناء علاقات اقتصادية متوازنة.
  • فتح أسواق جديدة غير ممكن، بحكم انخفاض الإنتاجية الفرنسية قياسياً للإنتاجية في آسيا.
  • الثورة التكنولوجية المؤقتة: انتقل مركز صناعة التكنولوجيا شرقاً.

إذاً لم يبق لدى الفرنسيين والغرب الأوروبي عموماً سوى أسواق وموارد شرق أوروبا، التي تضع أمريكا عينها على الموارد الأوكرانية. وحين تظهر نتائج الحرب سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ستكون أوروبا الغربية عامة والفرنسيين خاصة قد خسروا أسواقهم، وتبدأ مفاعيل الأزمة الشاملة، وتتوسع الإمكانيات الثورية، ويصبح وجود البرجوازية وسلطتها على المحك، حينها لن تنفعهم لا الأسلحة التقليدية، ولا النووية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1223