إدارة التراجع... ملامح السياسة الأمريكية الجديدة
ديما النجار ديما النجار

إدارة التراجع... ملامح السياسة الأمريكية الجديدة

كما هو حال كثير من الإمبراطوريات عبر التاريخ، تشهد الولايات المتحدة اليوم تراجعاً نسبياً في نفوذها العالمي، مع صعود قوى دولية فاعلة، تطرح بدائل منافسة على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية. يُحاول دونالد ترامب أن يتزعم استراتيجية أمريكية هدفها الأساسي احتواء هذا التراجع، أو على الأقل إبطاء وتيرته.

تتركز هذه الاستراتيجية على وضع الثقل على العداء مع الصين المنافس الأول للولايات المتحدة. ولعل من أهم السياسات التي يتبناها لمنع تراجع موقع الولايات المتحدة: إعادة توطين الصناعات الأهم في الولايات المتحدة، وإطباق السيطرة على قارة الأمريكيتين من غرينلاند شمالاً إلى أمريكا الجنوبية لتشكل الأمريكيتان معاً بحوالي المليار نسمة ككل، وزناً ديموغرافياً واقتصادياً أقدر على مواجهة الصين.

استنزاف جمركي لإعادة توطين الصناعة في أمريكا

يقود ترامب حرباً تجارية مع كثير من الدول: كندا، المكسيك، الاتحاد الأوروبي وبالطبع الصين. ومع أن الحديث الأولي كان يدور عن سعي الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءات حمائية لسوقها، والرغبة بجني مزيد من الأموال ممن يستفيد من السوق الأمريكي. إلا أن الهدف المعلن لهذه الحرب التجارية هو دفع الشركات إلى نقل مواقع إنتاجها إلى الولايات المتحدة، عبر جعل التصدير أقل ربحية عبر الجمركة. ذكرت جريدة تسايت الألمانية، أن حسابات مؤسسة تاكس فاونديشن الأمريكية وضحت أن ما قد تجنيه الولايات المتحدة من التعرفة الجمركية الجديدة قد يصل 4.5 تريليون دولار في عشر سنوات، في حين أن ضريبة الدخل الفيدرالية قد تعود على الولايات المتحدة ب 16ـ18 تريليون دولار في حال تمت إعادة توطين عدد من الصناعات في الولايات المتحدة. وتسعى الولايات المتحدة لذلك عبر استنزاف الحلفاء من الدول الصناعية. بالطبع الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي قد تصيب الحلفاء ليست ضمن حسابات مشروع «أمريكا أولاً».

القول أسهل من الفعل

تتصاعد الأزمة الاقتصادية العالمية بسرعة، وبينما تسعى الولايات الأمريكية لإعادة ترتيب أوراقها فإن الدول الصاعدة تستمر في الصعود. بينت كثير من الدراسات، أن صحوة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الفخ الذي انزلقت به عبر نقل عمليات الإنتاج إلى بلدان حيث تكاليف الإنتاج أرخص، لا يمكن عكسها بهذه السهولة. مقالة في موقع فوربس أوضحت الأسباب العميقة لذلك.

أولها: الأجور وتكاليف عملية الإنتاج. فمثلا، وبحسب مكتب إحصاء العمالة الأمريكي، بلغ متوسط أجر العامل في القطاعات الصناعية في الولايات المتحدة حوالي 30 دولار في الساعة في منتصف عام 2024، مقارنةً بحوالي 7 دولارات فقط في الساعة في الصين، وأقل من ذلك بكثير في العديد من الدول النامية الأخرى. هذا الفرق الكبير في تكاليف العمالة وحده ينعكس في شكل منتجات أرخص للمستهلكين، وهوامش ربح أعلى للشركات.

ثانياً: هو تعقيد سلاسل التوريد العالمية التي تطورت على مدى عقود. وقد قامت الشركات بتحسين هذه السلاسل بهدف تقليل التكاليف وتعظيم الكفاءة، وغالباً ما تعتمد على نظام «الإنتاج حسب الطلب» لتقليل تكاليف التخزين.
إنّ إعادة توطين التصنيع في الولايات المتحدة يتطلب إعادة هيكلة شاملة لهذه السلاسل الراسخة، ليس لدى الولايات المتحدة الوقت الكاف لإنجازها في حال افترضنا أن جميع رؤوس الأموال همّت على الفور لتنفيذ هذا المخطط.

ثالثاً: نقص العمالة المتخصصة في الصناعات التي هاجرت قبل عقود.

الأمريكيتان للولايات المتحدة!

لا ينفك ترامب يكرر أن كندا يجب أن تكون الولاية 51 لبلاده. كذلك يسعى لضم غريندلاند التي تتمتع بحكم مستقل تابع للدنمارك، لأهميتها الاستراتيجية في منطقة القطب الشمالي، في وقت يتقلص فيه الجليد القطبي، ويبدأ فيه المحيط المتجمد الشمالي ليصبح ساحة للصراعات الدولية، للسيطرة على طريق التجارة الشمالي. كذلك تسعى الولايات المتحدة بشراسة متزايدة لضمان خضوع كامل لدول أمريكا اللاتينية، يُنغصها باستمرار الأنظمة اليسارية في كوبا، فنزويلا، ونيكاراغوا، الدول التي وصفها وزير الخارجية الأمريكي من أصول لاتينية، ماركو روبيو، في 4 شباط الفائت بـ «أعداء الإنسانية».

في أمريكا اللاتينية، نحن أمام كتلتين: إحداها تقدمية والأخرى موالية للولايات المتحدة كالأرجنتين، الإكوادور، والسلفادور، والتي تعاني من أزمات مالية خانقة. ترى هذه الأخيرة في الديون ودعم صندوق النقد الدولي المخرج الوحيد لأزماتها، بدل النظر إلى طاقاتها الداخلية، والقوة الكامنة في تحالف القارة لمواجهة تغوّل الولايات المتحدة. مع تراجع الدور الأمريكي، ومعها المؤسسات التي تقودها كصندوق النقد الدولي، قد تجد هذه الدول أيضاً في التعددية القطبية مخرجاً يتيح لها خيارات أوسع لتنويع العلاقات الاقتصادية، إضافة إلى أن الشعوب اليوم في حالة من الاستنفار قد تنبئ بمفاجآت، حتى في دول تبرعت السلطات فيها لتلعب دور كلب الحراسة للمصالح الأمريكية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1221