رياحُ الشرق تُلهم «آسيان»: مرحلةٌ انتقاليةٌ ما قبل التحوّل الشامل!
في قلب جنوب شرق آسيا، حيث تتقاطع المصالح الاقتصادية والسياسية وتحتدم النزاعات الإقليمية، اجتمع قادة «آسيان» في العاصمة اللاوسية فيينتيان، لنقاش وصياغة ملامح المستقبل، وسط بحر متلاطم من التحديات، وكان ذلك بمناسبة انعقاد القمة الرابعة والأربعون للرابطة التي تعيش فترة انتقالية وتشهد تحولات نوعيّة.
ما هي هذه التحولات؟ وماذا جرى في القمة الجديدة؟ أسئلة سنجيب عليها بالتفصيل في هذا المقال...
الموضوعات المطروحة على الطاولة
ناقش قادة الدول الأعضاء في قمة «آسيان» التي امتدت من 9 إلى 12 تشرين الأول/أكتوبر من العام الجاري 2024، تعزيز التعاون لتحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة، وسط التوترات المتزايدة التي تشهدها ملفاتها الساخنة.
ومن الموضوعات الأساسية التي كانت على طاولة النقاش في القمة، هي مسألة بحر الصين الجنوبي، والنزاعات البحرية بين الصين وبعض الدول الأعضاء مثل: الفلبين وفيتنام، إذ أعربت الدول عن قلقها ممّا وصفته «بالتوسع العسكري الصيني» في المناطق المتنازع عليها. وبعض القادة، ومنهم رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم، دعوا إلى تعزيز التعاون الإقليمي لحماية حرية الملاحة، وضمان الاستقرار في هذه الممرات البحرية المهمة.
كذلك، تصدرت الأزمة السياسية في ميانمار المناقشات في القمة، حيث لا تزال الصراعات الأهلية وأزمة اللاجئين مصدر قلق كبير، ولذا حاولت «آسيان» وضع حلول للتعامل مع الانقلاب العسكري المستمر منذ عام 2021، فيما بدا أن المواقف متباينة بين الأعضاء بشأن كيفية الضغط على حكومة ميانمار للتوصل إلى حلّ سياسي.
وإلى جانب القضايا الأمنية، بحث القادة تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، مع التركيز على التحول الرقمي، وتطوير سلاسل التوريد الإقليمية، لتعزيز الربط بين اقتصادات الدول الأعضاء.
بماذا نادت الهند؟
أبرز التصريحات خلال القمة كانت لوزير الخارجية الهندي، الذي أكّد أن «الحل السلمي هو الطريق الوحيد لحلّ النزاعات»، مشدّداً على ضرورة الحفاظ على السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي لما فيه مصلحة منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهذه التصريحات عكست توجه الهند لتعزيز الحوار والتعاون في المنطقة بدلاً من التصعيد.
التحديات الرئيسية في آسيا
فتحت القمة والنقاشات الجارية فيها، الباب واسعاً أمام تحديات آسيا الرئيسية إلى جانب مسألتي بحر الصين الجنوبي وميانمار، فهنالك تحديات أخرى تواجه آسيا، مثل: قضية تايوان التي تصاعدت التوترات حولها، بين الصين والولايات المتحدة، والتي تؤثر بشكل كبير على استقرار المنطقة. وكذلك، قضية كوريا الشمالية والتجارب الصاروخية المستمرة، التي تهدد الأمن في شبه الجزيرة الكورية، وتجذب اهتمام الدول الكبرى.
وفي الحقيقة، فإن مجمل هذه القضايا تمثل تحديات كبيرة للمنطقة، وتتطلب حلاً مرضياً للأطراف المعنية جميعها، لضمان استقرار وتقدم جنوب شرق آسيا، وعلى «آسيان» أن تسارع لتحقيق تقارب في الرؤى حول هذه الأزمات، بعيداً عن الإملاءات الغربية، ومحاولات زج الأعضاء فيها بوجه القوى الصاعدة دولياً وعلى رأسها الصين وروسيا، بما في ذلك محاولات إنشاء «ناتو» آسيوي بوجه روسيا، وغيرها.
منذ التأسيس حتى اللحظة!
لا تُعدّ رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان» منظمة محايدة، فقد تأسست عام 1967 بدعم قوي من الولايات المتحدة، وكانا كلاً من الصين والاتحاد السوفييتي قد انتقدا المنظمة في البداية باعتبارها أداة أمريكية. ومع ذلك، دفع التحول العالمي بالرابطة ودولها إلى التقارب مع الصين، حيث تم توقيع اتفاقية تجارة حرة بين الطرفين لأول مرة في العام 2002. ونتيجة لذلك، ارتفعت التجارة بين آسيان والصين، لتبلغ حوالي ضعف حجم التبادل مع أمريكا في العام 2021 (669 مليار دولار مع الصين بمقابل 364 مليار دولار مع الولايات المتحدة).
لاحقاً لذلك، وقّعت آسيان مع الصين اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، ودخلت التنفيذ في العام 2022. لكن وكما يبدو، فإن دول آسيان تنتهج سياسة براغماتية في التعامل مع الصين والولايات المتحدة؛ فبعد انضمامها إلى الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، انضمت سبع دول من المنظمة إلى المشروع الأمريكي المسمى «الإطار الاقتصادي الهندي الهادئ».
وربما هذه البراغماتية ساهمت وتسهم حتى اللحظة في تجنب حدوث صراعات كبيرة في بحر الصين الجنوبي، فالتقارب الجغرافي مع الصين يفرض تحديات، وقد أظهرت الصين استعداداً لتقديم بعض التنازلات لجيرانها الأضعف في الرابطة، لكن رغم ذلك، لم تتفق دول الرابطة جميعها بشكل كامل، حول عددٍ من القضايا التفصيلية في الصراع الأمريكي– الصيني، حيث تستمر دول آسيان في تقييم مواقفها بناءً على مصالحها، وفي بعض الأحيان تتجاهل الولايات المتحدة إلى حد كبير.
فبالرغم من معارضة الولايات المتحدة الشديدة لمبادرة «الحزام والطريق» الصينية، لم تتجاوب دول آسيان مع هذه المعارضة؛ إذ تشارك الدول الأعضاء في الرابطة في العديد من مشاريع المبادرة، وتُعد منطقة جنوب شرق آسيا الأكثر استقطاباً للاستثمارات الصينية الضخمة في البنية التحتية، حيث يوجد أكثر من 53 مشروعاً كبيراً قيد التنفيذ في المنطقة منذ عام 2020.
وأثمرت هذه المشاريع بشكل كبير، فمثلاً، لاوس- التي عقدت فيها القمة التي نتحدث عنها- والتي تُعد واحدة من أفقر دول العالم، استفادت من مبادرة «الحزام والطريق» بإنشاء خط سكة حديد عالي السرعة، يربط بين عاصمتها «فينتيان» ومقاطعة «يونان» الصينية، ما قلّص مدة الرحلة من 15 ساعة إلى أقل من أربع ساعات. كما لجأت إندونيسيا إلى الصين للمساعدة في بناء خط سكة حديد عالي السرعة بين جاكرتا وباندونغ.
في المقابل، ورغم محاولات أمريكا لفرض السطوة الكاملة على «آسيان»، فهي لم تستطع منع دولها من الاستفادة من هذه المشاريع، والتنسيق مع الصين، وذلك لأنها لا تملك بديلاً عملياً ينافس «الحزام والطريق» بصورة أساسيّة.
خطوة استراتيجية أولى
ختاماً، واستناداً إلى المعطيات السابقة كلّها، يمكن القول: إنّ «آسيان» تعيش الآن مرحلتها الانتقالية المؤقتة، قبل أن تتحول من الغرب إلى الشرق، وذلك تحت ضغوطات التوازنات الدولية الجديدة، والتحولات العالمية الجارية بالدرجة الأولى، وانسجاماً مع مصالحها الوطنية؛ فمحاولات الموازنة ما بين أمريكا والصين، والتركيز على قضايا التعاون الإقليمي بين الدول الأعضاء في المنظمة هي خطوة أولى بالمعنى الاستراتيجي، ما قبل التحول الشامل باتجاه الشرق، وذلك إسوةً بغيرها من المنظمات الدولية التي بدأت غربية الهوى، ثمّ ألهمها الشرق فمالت صوبه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1196