أصوات أمريكية: نتائج كارثية لسياستنا الحالية!
ظهر جلياً، ومنذ اللحظات الأولى التي تلت عملية 7 تشرين الأول، أن واشنطن هي من يدير الصراع، وثبتت لذلك ثوابت أساسية لإدارة الحرب التي شنّها الكيان الصهيوني على القطاع، لكن أصواتاً ارتفعت في الأيام الأخيرة تشير إلى أن «صلاحية» الخطة الأمريكية تنفذ، وبدأت الارتدادات تظهر بالفعل.
فرضت التطورات الأخيرة في الأراضي المحتلة على جميع حكومات المنطقة والعالم تحديد موقفهم مما يجري، وخصوصاً بعد تطور حالة غير مسبوقة من التعاطف على المستوى الشعبي العالمي، وبالنظر إلى كمية الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال خلال الأسابيع الماضية، كان لا بد من تسرّب انتقادات واسعة بحق «إسرائيل» حتى إلى وسائل إعلام غربية كانت حتى قبل فترة قصيرة مساحة حصرية للدعاية الصهيونية، لتبدأ بعض الانتقادات الخجولة تظهر على لسان بعض سياسيي الدول الغربية، لكن مسألة مفصلية تغييب عن مجمل هذه الانتقادات، ترتبط بشكلٍ أساسي بمسؤولية الولايات المتحدة عن كل ما جرى، وعن دور الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتعطيل حل القضية الفلسطينية، إلى جانب إسهامها المباشر بتسليح وتحديد مهام الكيان في المنطقة، التي صبّت دائماً باتجاه توتير الأجواء، والحفاظ على نقطة اشتباك واستنزاف دائمة. وإن كان الدور الأمريكي في دعم الكيان معلناً لا مجال لإنكاره، يجب علينا أن طرح المسألة الأساسية التالية: إن كانت الولايات المتحدة دعمت «إسرائيل» كل هذا الزمن، فإن أي هزيمة وتراجع لقاعدة واشنطن والغرب المتقدمة يعني بالضرورة هزيمة وتراجع للولايات المتحدة، ويمكن من هذه النقطة أن نستذكر الموقف الأمريكي بعد عملية 7 تشرين الأول، الذي ركّز على ثلاثة أفكار أساسية، ولم تتراجع عنها الإدارة الأمريكية حتى اللحظة الحالية، وذلك رغم ظهور بوادر جدية لانقسامات داخل صفوفها.
ثلاثية واشنطن
ثبّت الموقف الأمريكي منذ اللحظة الأولى «قواعد» لا يجب خرقها، لأن خرقها يمكن أن يورط الولايات المتحدة في مأزق كبير بتكاليف سياسية باهظة، وتمثّلت «ثلاثية واشنطن» أولاً: بمنع وقف لإطلاق النار، لأن ذلك يعني هزيمة مطلقة للكيان، وبالتالي للولايات المتحدة من خلفه. ثانياً: منع توسيع رقعة الحرب، وضمان ألا تتوسع لحرب إقليمية شاملة، ستكون واشنطن مضطرة عندها لانخراط مباشر يترتب عليه خسائر اقتصادية وعسكرية كبيرة، فضلاً عن عواقب سياسية لا يمكن التنبؤ بها. ثالثاً: في استراتيجية واشنطن، كان منع أي اجتياح بري واسع لجيش الاحتلال في القطاع، لأن مغامرة بهذا الحجم تستنزف جيش الاحتلال وداعمه الأول، وستكون خسائره خطيرة على جيش الاحتلال، وسوف تضخم التكاليف السياسية على الكيان ونتنياهو، ما يعني تفاقم أزمة الكيان، وبالتالي تعقيد الظرف في المنطقة أمام واشنطن. فإذا نظرنا إلى هذه المحاور الثلاثة، يمكننا أن نفهم جوهر السلوك الأمريكي في الأسابيع الماضية، فهناك سعي واضح لتغطية النتائج السياسية بقنابل دخان كثيفة، وتأخير تثبيتها، لأن جلاء كل هذا يعني هزيمة كبرى لواشنطن، سنعرّج على ملامحها لاحقاً. ولكن وقبل استعراض النتائج الأولية التي تلوح بالأفق، يمكن لنا أن نستعرض جولات وزير الخارجية الأمريكية الأخيرة، وما نتج عنها، بوصفها اختبار جدي لقدرة واشنطن على تمرير ما تريده.
بلينكن جولات عديدة بنتائج صفرية
أجرى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن جولة ثانية للمنطقة في أقل من شهر، وشملت جولته الأخيرة الشرق الأوسط والمحيط الهندي، زار بلينكن خلالها الكيان الصهيوني، وأجرى محادثات مع بنيامين نتانياهو، وانتقل بعدها إلى الضفة الغربية، ثم الأردن، حيث أجرى هناك مؤتمراً صحفياً مشتركاً مع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، ووزير الخارجية المصري سامح شكري، وشملت رحلة بلينكن كلاً من قبرص والعراق وتركيا، قبل أن يتوجه إلى آسيا، حيث زار اليابان وكوريا الجنوبية، واختتم جولته في العاصمة الهندية نيودلهي. ظهر في الجولة هذه بشكلٍ واضح، أن واشنطن وعلى الرغم من علاقاتها المتشابكة مع دول مؤثرة في المنطقة، إلا أنها غير قادرة على تمرير أي بندٍ جدي في أجندتها، ففي أثناء المؤتمر الصحفي المشترك الذي جمع بلينكن مع نظرائه في مصر والأردن، أقر وزير الخارجية الأمريكي: أن المجتمعين كان لديهم «وجهات نظر ومواقف مختلفة» ورحّب بعزمهم عن «تجاوز» هذه الخلافات، دون أي إعلان ملوس عن كيفية تحقيق ذلك! ولم يكن الوضع مختلفاً في المحطات الأخرى، فالأولويات الأمريكية بدت مختلفة عن أولويات دول المنطقة، التي ترى ضرورة فورية لوقف إطلاق النار، بينما عبّر بلينكن صراحةً عن رفض واشنطن لذلك، واعتبر أن وقف إطلاق النار في هذه اللحظة «سيترك ببساطة حماس في مكانها، قادرة على إعادة تجميع صفوفها وتكرار ما فعلته في السابع من تشرين الأول/أكتوبر» ليضيف: أن البديل الذي تطرحه الإدارة الأمريكية وتبحثه مع المسؤولين الصهاينة، هو إمكانية اعتماد «هدن مؤقتة» تكون كافية لحماية المدنيين حسب ادعائه، وتسمح بإجلاء الأجانب المحتجزين داخل القطاع وتضمن في الوقت نفسه «لإسرائيل حقها في الدفاع عن نفسها» وتسمح لها أيضاً في «تحقيق هدفها: المتمثل في دحر حماس» الذي تثبت الأيام أنه أصبح هدفاً مستحيل التحقيق في الظروف الحالية. ورغم أن المسؤولين الذين التقاهم بلينكن أبدو أيضاً رغبة بعدم توسيع رقعة الصراع الحالي، إلا أن تحقيق ذلك يظل مرهوناً بوقف التصعيد الصهيوني، وإجباره على وقف إطلاق النار، ما يعني أن الاستراتيجية الأمريكية لها آجال زمنية لتحقيقها، وبدأت تنفذ بالفعل.
ارتدادات داخل الإدارة الأمريكية
ما أن انتهت الجولة الأمريكية حتى بدأت نتائجها تفعل فعلها داخل الخارجية الأمريكية، وفي إدارة بايدن كلّها. إذ بعد أيام من عودة بلينكن، نشرت وسائل إعلام أمريكية رسالة وجّهها وزير الخارجية إلى موظفي الوزارة بعد تعالي أصوات رافضة للسياسة الأمريكية في إدارة الأزمة الحالية، واستقالة مسؤولين أمريكيين على إثر ذلك، أحدهم كان موظفاً في وزارة الخارجية، فكان مئات الموظفين في «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» وقّعوا في وقتٍ سابق على رسالة مفتوحة تدعو إلى وقف لإطلاق النار، وتحدّثت تقارير أخرى عن وجود مذكرة معارضة داخل أروقة الخارجية الأمريكية. وفي رسالة بلينكن المشار إليها، أقر الوزير أن «بعض الأشخاص داخل الوزارة قد يختلفون مع الأساليب التي نتبعها، أو لديهم وجهات نظر حول ما يمكننا القيام به بشكل أفضل» وأكد المتحدث الرسمي باسم الخارجية ماثيو ميلر: أن الوزارة تضم بالفعل «أشخاصاً لديهم وجهات نظر متنوعة». وأشار أن بلينكن التقى عدداً من الأشخاص من جميع الرتب، ومن مكاتب مختلفة «للاستماع بالضبط إلى ما يفكرون فيه بشأن سياستنا».
لا يمكن النظر إلى التقارير الواردة من داخل الإدارة الأمريكية إلى كونها «صحوة مفاجأة» بل هي تماماً كما قال بلينكن: «وجهات نظر حول ما يمكننا القيام به بشكل أفضل» أي أن بعض المسؤولين الأمريكيين باتوا يدركون حجم التورط الأمريكي، وضرورة وقف إطلاق النار، كون استمرار الوضع الحالي يشكل تهديداً خطيراً على واشنطن نفسها، فدافع هؤلاء ليس الحرص على أرواح المدنيين، وإنما يرتبط بأن التوجه الامريكي منذ بداية الحرب كان له مدة صلاحية محددة، واستمرار نفس السياسة بعد انتهاء هذه المدة، سيكون له نتائج كارثية تتضخم مع كل ساعة. ويعني فعلياً، أن التحركات هذه التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى زيادة «انتقاداتها» للكيان في الأيام الماضية، تعني أن الخطة الأمريكية لإدارة الأزمة تفشل، وينبغي عليهم الاعتراف بذلك، ومحاولة استدراك ما يمكن استدراكه. وربما تكون تصريحات بليكن المتعددة مؤخراً حول تمسك واشنطن «بحل الدولتين» إشارة إلى أن الولايات المتحدة بدأت تدرك أن أولى نتائج هذه الحرب هي خسارتها لموقعها كوسيط أساسي في القضية الفلسطينية، وأن هذا الملف سينتقل قريباً إلى وسطاء آخرين لديهم مصلحة حقيقية بحل هذه القضية، لا احتجازها في دهاليز السياسة الأمريكية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1149