القرن الإفريقي على نار هادئة
لا تزال تعتمل الأزمات داخل دول القرن الإفريقي (الصومال- إثيوبيا- إرتريا- السودان) في المستويات المعيشية والسياسية والعسكرية كافةً، وبتشابك وترابط لا يجعل حلّ أية جزئية منها بأي بلدٍ منها ممكناً دون حلها جميعاً وبجميع الدول المعنية على التوازي.
من غير الممكن رصد مسببات التوتر والأزمات في القرن الإفريقي بالشكل التفصيلي وحده، أو بالنظر إلى السنوات القليلة القريبة السابقة فقط، وإنما تعود جذورها إلى بدايات القرن الماضي مع خروج القوات المستعمرة وانتهاء الاستعمار التقليدي القديم، مخلفاً وراءه جملةً عديدة من المشاكل ليس أقلها الخلافات الحدودية والإقليمية والعرقية، سواء داخل كل دولةٍ منها على حدةٍ، أو فيما بينها.
ولتبتلي هذه الدول نفسها بعد ذلك بنموذج الاستعمار الحديث والتدخلات الأجنبية بها، مع بروز أنظمة تابعة تعتبرها شعوبها (غير وطنية) وإنما مليئة بالفساد وتعمل لصالح نُخب النهب فيها بالترابط والتشابك مع الغربيين وخلفاً لاستعمارهم أساساً.
مع الأزمة الرأسمالية العامة من جهة، وتضرر رأس هرمها الولايات المتحدة الأمريكية، وما يفرضه عليها من تراجع وهزائم، وبالتالي عدوان أكثر، تسعى واشنطن بانسحابها من أية بقعة دولياً، أن تُدخلها في دوامة من الفوضى والصراعات البينية المستدامة، لإدامة إضعاف هذه الدول، وتأمين تبعيتها لها ولو بالحدود الدنيا من جهة، مع الاستفادة من أرباح تجارة الحرب أياً تكن سواء كانت سلاحاً أو ديوناً وفوائد وشروطاً والخ، وبالحدّ الأعلى محاولات- إثر هذه الفوضى والنزاعات- لإعاقة تقدّم القوى الدولية الجديدة الصاعدة على المسرح العالمي في هذه المناطق، وأكبرها الصين وروسيا.
أزمة الصومال
تأتي الصومال مثالاً على ذلك، حيث انطلقت أزمتها الأخيرة تحديداً وفق عاملين اثنين متشابكين: انسحاب القوات الأمريكية منها بالتوازي مع فترة الانتخابات الرئاسية، مما أخلّ بالمعادلات داخلياً في بلدٍ لا يزال يعاني أساساً من مجموعات إرهابٍ صنعتها ورعتها وحافظت على وجودها واشنطن نفسها كـ «حركة الشباب» التابعة للقاعدة، واقتصاد منهار ومنهوب، وتدنٍّ معيشي متسارع، وحركة سياسية شبه معدومة ومقموعة غير قادرة بعد على إنتاج نظام سياسي بديل يؤمن شروط الاستقرار وحلّ الأزمات وبنائه.
إثر المواجهات العسكرية الأخيرة في الصومال بين القوات الحكومية والمعارضة والقوى الإرهابية، بالتزامن مع انطلاق حركة شعبية تندد بترشح رئيس البلاد الحالي محمد عبد الله فرماجو، والضغط والتدخل الدولي والأمريكي تحديداً بموضوعة الانتخابات، صادق البرلمان الصومالي على مشروع قانوني يجيز إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مباشرة في غضون عامين، وكان قد سبقه في أول شهر نيسان إعلان البيت الأبيض بأن الرئيس الأمريكي جو بايدن وقع أمراً بتمديد العقوبات الاقتصادية الأمريكية على الصومال لمدة عام آخر، مما شكلت هذه العوامل جميعها ضغوطاً على البلاد ككل، واستعار الحرب داخلها، لتكثر وتيرة التفجيرات الإرهابية والاشتباكات.
وصولاً إلى مؤشرات انقسام داخل قوى النظام الصومالي نفسه، بالشق الأمني والعسكري، حيث جرت مثلاً اشتباكات داخل العاصمة مقديشو بين قوات حكومية وقائد شرطة العاصمة السابق، وفي مطار مقديشو الدولي خلافات واشتباكات «بالأيدي» بين وكالة المخابرات والأمن القومي وموظفي إدارة الهجرة، وصولاً إلى أنباء أفادت بأن قوة من الجيش الصومالي عارضت تمديد ولاية فرماجو وانسحبت من قواعدها في أجزاء من إقليم شبيلي المجاور للعاصمة، وسيطرت قوات أمنية معارضة على أجزاء من المدينة.
أدت هذه الأحداث والضغوط على فرماجو بإعلانه يوم الأربعاء الماضي تخليه عن محاولة تمديده فترته الرئاسية لعامين، مكلفاً رئيس الوزراء محمد حسين روبلي- الذي أعلن رفضه ومعارضته للتمديد أيضاً- بالتحضير لإجراء انتخابات رئاسية جديدة.
من غير الحاجة للكثير من الاجتهاد في التحليل، يرى العديد من الصوماليين بأن المحرّك خلف الانشقاقات الأمنية والعسكرية نفسها، بالتوازي مع عودة نشاط «حركة الشباب» جاءت بإشارات أمريكية أولاً، وهي التي لم يمض على انسحابها بضعة أشهرٍ من بلدٍ انخرطت به استخباراتياً وأمنياً لعقود، ليكون من السذاجة الظنّ أنها بانسحابها لم يعد لواشنطن أثر، بل قل: إن انسحابها كان تمهيداً لما يجري الآن، وبعيداً عن قواتها.
لتكتمل حالياً عناصر الفوضى: اقتتال وحرب، نشاط إرهابي، مستوى معيشي متدهور للغاية، مظاهرات شعبية من غير حركة سياسية، انقسامات داخل النظام، وفراغ في السلطة. بالتوازي مع اشتعال الدول المحيطة بها إقليمياً: اليمن والسودان وإثيوبيا، وتشاد مؤخراً.
السودان وإثيوبيا
فضلاً عن الخلافات الداخلية العرقية والإقليمية في كلٍّ من إثيوبيا والسودان، تجري بين الدولتين أزمتان حادتان ومترابطتان: خلافات حدودية، وأزمة سدّ النهضة، ويسعى كلٌّ منهما إلى كسب الملفين بآن واحد، ففي حين تتحكم إثيوبيا بالسدّ وعمليات ملئه للضغط على الخرطوم، يضغط السودان عسكرياً وقانونياً باستعادة «أراضيه» وفق حدود عام 1902 وفق إعلان للجيش السوداني.
ويعاني السودان تحديداً من أزمة معيشية حادة لم ولن تفرجها له «هزلية التطبيع» مع كيان العدوّ، وصولاً مؤخراً إلى تصريحٍ من وزارة الصحة عن نقصٍ حاد في مجال الأدوية، دون تحديد (أي: ليست الخاصة بالوباء الفيروسي وحده)، مع استمرار الوعود «المخدّرة» بالتعويضات المالية لقاء «التطبيع» حيث قال السفير الفرنسي في السودان: إن بلاده «مستعدة» لتقديم قرض «تيسيري» يصل إلى 1,5 مليار دولار من أجل تسوية متأخرات السودان لصندوق النقد الدولي، دون تحديد كيف أو متى؟
ونرى محاولة استثمار هذه المجريات في القرن الإفريقي بما جرى تداوله زيفاً عن (تعليق إنشاء مركز إمداد للقوات البحرية الروسية على ساحل السودان في البحر الأحمر) وهو ما نفته السفارة الروسية في الخرطوم تماماً، علماً أن الاتفاقية لا تزال تحتاج موافقة البرلمان السوداني عليها، مما يعطي الإشارة بأن هناك مساعيَ حقيقية بمنع حدوث ذلك، وإبعاد نفوذ الشرق الروسي والصيني عن القرن الإفريقي، وتفتيته على نار هادئة لضمانة استمرار هذا الأمر.
على أية حال، ترتبط هذه الطموحات الأمريكية بمدى قدرتها الفعلية على إنجازها، تلك القدرة التي تتضاءل وتضعف بمرور الوقت، بالتوازي مع رغبة الشعوب المعنية بإنجاز تغييرات حقيقية بأنظمتها ولمصلحتها، تلك المصلحة التي تتعارض موضوعياً مع طموحات أعدائهم، وتتلاقى مع القوى الجديدة الصاعدة تأميناً لحلولٍ سياسية تعطي المفاتيح لإنجاز هذه التغييرات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1016