السودان  حلٌ واحدٌ لا يقبل المواربة
عتاب منصور عتاب منصور

السودان حلٌ واحدٌ لا يقبل المواربة

يحمل شهر كانون الأول الذكرى السنوية الأولى للحركة الاحتجاجية الشعبية في السودان، والتي خرجت في البداية ضد رفع أسعار الخبز، لتنتهي مرحلتها الأولى بعزل عمر البشير وتَشكيل المجلس الانتقالي. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع بعد إطلاق حكم نهائي على ما يجري في المرحلة الانتقالية، إلّا أنه بات من الضروري التوقف عند بعض المؤشرات في محاولةٍ للخروج بنتائج حول ما يشهده السودان حالياً.

يرى البعض في الحكومة الانتقالية تعبيراً صادقاً عن مطالب الشعب، ويستند هؤلاء إلى تحسن الأوضاع الأمنية والانحسار المؤقت للحركة الشعبية التي كانت تملأ شوارع السودان، وتشير بعض التقارير الإعلامية، مثلاً إلى أنَّ إعلان الحكومة المؤقتة عن تخفيض عدد الجنود السودانيين الذين يقاتلون في اليمن وبعض الإجراءات لضمان حقوق المرأة بشكل أكبر يعتبر تنفيذاً لمطالب الشعب المنتفض، إلا أن الوقائع لا تثبت هذه الاستنتاجات المتسرعة.

كيف تقاس الأمور؟

أعلنت الحكومة الجديدة عن ميزانيتها للعام 2020 التي يفترض أن تعبر عن إرادة التغيير لدى المجلس الانتقالي، والتي من المفترض أيضاً أن تطرح الآليات التي سيجري من خلالها القطع مع سياسات النظام السابق، وإطلاق النموذج السوداني الجديد، إلّا أن الموازنة هذه لم تحمل أي تغيير حقيقي في طريقة إدارة الاقتصاد، فتعول الميزانية على المساعدات الخارجية من البنك الدولي وصندوق النقد، بالإضافة إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي ودعم القطاع الخاص، وتثبت التوجه السابق بزيادة الضرائب التي تضر بالفقراء والقطاع المنتج السوداني. وجرى تثبيت هذا التوجه بتصريحات لوزير المالية السوداني، إبراهيم البدوي، الذي أعلن أن الحكومة ستعمل على الرفع التدريجي لدعم الوقود، وهذا يعد اتجاهاً معاكساً لمطالب الحركة الشعبية في السودان، فرفع الدعم عن الوقود حتى ولو تزامن مع دعم 9 آلاف أسرة «عن طريق تقديم معونات مالية مباشرة كما أعلن البدوي» سيزيد من الاحتقان في السودان، وسوف يفاقم المشكلة بدل حلها، وخصوصاً أن الحكومة تبدو تواقةً لتنفيذ الشروط التي تضعها الجهات المانحة للقروض، متجاهلة بذلك تجارب كل الدول الفقيرة التي تعاني شعوبها من هذا النوع من الإقراض المشروط، وهنا يبدو بوضوح أن القوانين التي تهدف إلى ضمان حقوق المرأة تستخدم كنقابل دخانية لتضليل الرأي العام والإيهام بإنجاز التغيير المطلوب.

ما مصير السلام؟

عانى الشعب السوداني من الاقتتال الداخلي لعقود طويلة، وكانت الآمال كبيرة بإيجاد اتفاق يعزز السلام وينهي معاناة الحرب، وشهد ملف المفاوضات تحركات كثيرة في الفترة الماضية، وتجري مفاوضات بين الحكومة السودانية من جهة والحركات المسلحة من جهة أخرى، وتظهر على ساحة هذه المفاوضات أربعة أطراف أساسية وهي، حكومة السودان الجنوبي التي تلعب دور الوسيط في هذه المفاوضات، و«الحركة الشعبية– شمال» التي يقودها عبد العزيز الحلو، والجبهة الثورية السودانية بقيادة مالك عقار، الذي انشق عن «الحركة الشعبية– شمال» بعد خلافات في الكثير من القضايا.
المشكلة في المفاوضات، أنَّ الوصول إلى اتفاق لا يصبُّ تلقائياً في مصلحة الشعب السوداني، فقد يُنتج عن هذا الاتفاق تعقيداتٍ أكبر، وشهدت المفاوضات بين الحكومة السودانية المؤقتة و«الحركة الشعبية جناح الحلو» خلافاً واضحاً انتهى بتعليقها لمدة أسبوعين، وكان الخلاف المعلن الذي منع الطرفين من التوصل إلى اتفاق هو «علمانية الدولة»، فيصر الحلو «الذي تتواجد قواته في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان» على أن تكون هوية الدولة «جمعية» ولا تحصرها بطائفة أو قومية، وهذا ما ترفضه الحكومة المؤقتة. وعلى الرغم من شرعية طرح الحلو هذا، إلا أنه يضع شروطاً تدفع الطرف الآخر إلى رفض التفاوض، ولا يكتفي بموضوع «علمانية الدولة»، بل ويطالب بوجود جيشين مستقلين في السودان مثلاً، وقد يرد جذر هذا التعنت إلى إصرار عبد العزيز الحلو على حق تقرير المصير لمنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، وهو ما قد يؤدي إلى تقسيم السودان أكثر بدل توحيده. أما موقف فريق مالك عقار رئيس الجبهة الثورية السودانية الذي يعتبر أن طرح موضوع تقرير المصير لن يحل المشكلة، ويعتبر عقار أن «الانفصال لم يحل قضية جنوب السودان، بل عمّقها أكثر، فكيف ننظر إلى حق تقرير المصير باعتباره آلية للتعبير عن حل للمشاكل»، ويعتبر مالك عقار أن موضوع علمانية الدولة يجب أن يحسمه الشعب السوداني وألا يجري نقاشه بين طرفين فقط. وكانت هذه الحركة قد وقعت في شهر كانون الأول اتفاقاً مع الحكومة السودانية يقضي بدخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق الخاضعة لسيطرته.
الوضع الحالي في السودان لا يعني أن الأمور قد حسمت، فمفاوضات السلام تواجه عقبات، وهذا طبيعي، المهم أنها جارية، ولا يمكننا القول بأن السودان سيشهد مزيداً من التقسيم إلا أنّ خطراً كهذا لا يمكن تجاهله. ما جرى في السودان يمكن أن يغير جزءاً من موازين القوى في المنطقة، وهو ما يفسر الاهتمام الدولي الكبير فيما يجري، حيث تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بمحاولة استخدامها لأوراق ضغط، مثل رفع العقوبات عن السودان ورفعها عن قائمة الإرهاب، ويجري الحديث عن شروط يجب أن تتعهد بها الحكومة، وهي عملية ابتزاز متوقعة ستنتج عنها تسهيلات إقراض لتنتج عنها شروط جديدة. وإن اعتبار الحكومة المؤقتة أن مشاكلها ستحل إذا ما رفعت من قائمة الإرهاب هو تصور منقوص، فإذا ما استمعنا إلى الشارع الذي أظهر درجة نضجٍ متقدمة، سندرك أن المطلوب لم يكن أبداً خطوة إلى الوراء، ولم يكن أيضاً المراوحة في المكان، بل ما يريده الشارع هو إطلاق مشروع تغيير حقيقي، وهو ما يفرض على الحكومة المؤقتة حلاً واحداً، وهو منع استثمار المشاكل من الخارج وإيجاد سلامٍ يضمن وحدة السودان، وتأمين توزيع عادلٍ لثروة السودان التي نهبت منذ عقود.

معلومات إضافية

العدد رقم:
946
آخر تعديل على الإثنين, 30 كانون1/ديسمبر 2019 13:29