روسيا وبوابات إفريقيا المفتوحة

روسيا وبوابات إفريقيا المفتوحة

استضافت روسيا- في حدثٍ يعدُّ الأول من نوعه- قمة «روسيا- إفريقيا» في مدينة سوتشي، وشكّل هذه الحدث التاريخي موضوعاً ساخناً للصحف العربية والعالمية في محاولة واضحة منهم لقراءة الرسائل والإشارات وراء هذه القمة، رأى بعضهم في ذلك توسعاً للنفوذ الروسي الذي بات «خارجاً عن السيطرة» والبعض الآخر اعتبره «جعجعةً بلا طحين».

امتدت أعمال القمة على مدار يومي 23-24 تشرين الأول، برئاسة مشتركة لكل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يشغل حالياً منصب رئيس الاتحاد الإفريقي.

المؤتمر و«البجعة البيضاء»

يشكل خبر انعقاد القمة بحد ذاته إشارة سياسية واضحة إلى العالم الغربي، ولكنَّ مجرياتها وما رافقها كان له كبير الأثر أيضاً، إذ شكّلت صور الوفود الإفريقية التي تتجول في معرض الأسلحة الروسي، الذي جهّز لهذه القمة، صدمةً لوسائل الإعلام وملأت هذه الصور صفحات الجرائد والمجلات.
وحضر هذه القمة ممثلون عن دول القارة الإفريقية الـ 54، وكان تمثيل 20 منها على مستوى الرؤساء، وأجرى الرئيس بوتين على هامش هذه القمة لقاءات ثنائية مع 13 رئيساً، كان من بينهم مصر وجنوب إفريقيا ونيجيريا وجمهورية وسط إفريقيا وإثيوبيا. وقامت روسيا بتوقيع أكثر من 50 اتفاقية خلال هذه القمة منها 30 للأغراض العسكرية، ووصل حجم التبادل ضمن الاتفاقيات مجتمعة إلى 12,5 مليار دولار.
وفي سياقٍ متصل أعلنت وزارة الدفاع الروسية في بيان لها، أنّ قاذفتين إستراتيجيتين من طراز «تو-160» ستهبطان في جمهورية جنوب إفريقيا يوم الثلاثاء عشية انعقاد قمة سوتشي، وجاء في بيان الوزارة أن «هدف الزيارة يتمثل بتطوير التعاون العسكري الثنائي والتدريب على حل قضايا التنسيق بين القوات الجوية الفضائية الروسية والقوات الجوية المسلحة لجنوب إفريقيا» إلا أن طبيعة الطائرة الملقبة بالـ «البجعة البيضاء» التي تفوق سرعة الصوت، والقادرة على حمل السلاح النووي والصواريخ فائقة الدقة، وتوقيت وصولها، كان بالنسبة للكثير من المراقبين استعراضاً للقوة في كرنفال جوي فوق أراضي القارة السمراء من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها.

الدور المصري

لعبت مصر دوراً واضحاً في التحضير لهذا المؤتمر، لتكون هذه القمة خطوة جديدة على طريق تمتين العلاقات المصرية- الروسية، والتي تشهد تطوراً متسارعاً أصلاً، هذا ما أكده حديث وزير الخارجية المصري سامح شكري لوكالات الأنباء، والذي قال فيه إن تطور العلاقات المصرية الروسية في المجالات كافة، العسكرية والاقتصادية والسياسية يجعل من مصر شريكاً حقيقياً لروسيا، وتضمن هذه الشراكة للدولتين المنفعة المتبادلة، فهو يسمح لمصر بلعب دور بارز مع شركائها الإفريقيين من جهة، وتكون مصر من جهة أخرى «منفذاً لروسيا إلى القارة من مدخلها في الشمال الشرقي». واكتملت الصورة من خلال الإشارات التي حملتها هذه القمة، والتي عبّر عنها الرئيس السيسي في كلمته الختامية، والتي جاء فيها أنهم يسعون في هذه القمة إلى صياغة «نظامٍ أكثر مساواة وعدالة في العلاقات الدولية، يقوم على مبدأ التعددية، واحترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتصفية الصراعات بالطرق السلمية وحماية الهوية الوطنية والتنوع الحضاري» هذا التوجه هو توجه تقوده روسيا والصين، واليوم يقوله السيسي في ختام القمة لا بصفته رئيس دولةٍ إفريقيةٍ فحسب، بل بصفته رئيساً للاتحاد الإفريقي وأحد منظمي قمة «روسيا- إفريقيا».
هذا واحتضنت الأراضي المصرية فور انتهاء قمة سوتشي، مناورات عسكرية روسية- مصرية تحت عنوان «سهم الصداقة»، وتعد هذه المناورات- والتي ستستمر 13 يوماً- الأولى من نوعها، نظراً لطبيعة الأسلحة المستخدمة فيها، فهي تضم منظومات الدفاع الجوي «تور إم2»، و«بوك إم2»، و«إيغلا» و«شيلكا» التي تُعد سلاحاً فعالاً في وجه الطائرات المسيرة.

الخطوة إستراتيجياً

تفتح هذه القمة «صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الروسية- الإفريقية» هذا ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ختام القمة، لكن الأهم بالنسبة لنا معرفة ما ستحمله هذه «الصفحة الجديدة». فحسب العديد من الصحف الغربية شكلت صفقات السلاح الحامل الأساس لهذه القمة، ومنهم من رأى أن معظم اتفاقيات التبادل التجاري لم تكن اتفاقيات نهائية، وهذا ما قد يمنع تحقيق حجم التبادل الذي جرى الإعلان عنه. لكن قبل محاولتنا الإجابة عن هذه الطروحات لابدَّ من تثبيت بعض النقاط الأساسية:
يصل التبادل التجاري اليوم بين إفريقيا وروسيا إلى ما يعادل 20 مليار دولار، وهو ضعف ما كان عليه الحال في السنوات الخمس الماضية، ويضع الرئيس الروسي هدفاً للسنوات الخمس القادمة بمضاعفة هذا التبادل ليصل إلى 40 مليار دولار، وهو ما يقارب حجم التبادل التجاري الروسي مع هولندا وحدها، وإذا ما وصل التبادل إلى الرقم المستهدف تكون روسيا قد حصلت على مكان صغير نسبياً في السوق الإفريقية، فحجم التبادل التجاري بين إفريقيا والولايات المتحدة يصل اليوم إلى 39 مليار دولار، وتقول الأرقام إن حجم التبادل الصيني الإفريقي وصل في نصف 2019 إلى أكثر من 101 مليار دولار.
الأحاديث التي تحصر التوجه الروسي إلى الساحة الإفريقية برغبتهم في السيطرة على سوق الأسلحة هناك هي رؤية قاصرة، فروسيا وقبل انعقاد هذا المؤتمر تعتبر مورّد السلاح الأكبر للقارة السمراء، وما جرى التوقيع عليه في القمة كان في معظمه تجديداً لاتفاقيات موقعة سابقاً، هذا بالإضافة إلى أنه وحسب الرئيس الروسي، فإن «جزءاً من إمدادات السلاح يتم على أساس مجاني»، وبالإضافة إلى هذا قامت روسيا إلى الآن بشطب أكثر من 20 مليار دولار من الديون الإفريقية.

ملامح الدور الروسي

لا شكَّ أن العناصر التي سبق ذكرها تشكل بالنسبة لروسيا عوامل تشجيعية لتطوير العلاقات مع القارة السمراء، لكن الأمور على ما يبدو تجري بشكلٍ معكوس، فروسيا- ومن خلال وزنها العسكري والاستخباراتي وإمكانية توسيعه، ووزنها التجاري الذي ينمو بسرعة- تسعى إلى أن تكون لاعباً سياسياً كبيراً في العالم، فهي اليوم ومن خلال هذه القمة تقوم بخطوة تدفع بعلاقتها الدبلوماسية والسياسية إلى الأمام بقوة، وإن نجاح روسيا في خطوتها هذه، يعني أنها ستكسب وزناً جديداً بحجم قارة. فالدول الإفريقية تتحرك بشكل متناغم في الساحة الدولية، وتحالف بهذا الحجم يعني بالنسبة لروسيا دعم حقيقي على الساحة الدولية وفي توجهاتها في مجلس الإمن، بمقابل وعود روسية برعاية المصالح الإفريقية من خلال استخدام عضوية روسيا الدائمة في مجلس الأمن. ويضاف إلى هذا فكرة جوهرية، وهي أنَّ مصر تعدّ فعلاً بوابة إفريقيا، ولكنها قبل كل شيء كانت تاريخياً لاعباً أساسياً في الشرق، ويمكن لمصر بالأمد المنظور أن تمارس دورها من جديد، فهي فعلياً جسر يستطيع- إذا ما بُني جيداً- أن يصل آسيا بإفريقيا، وهذه خطوة مهمة بالنسبة لأقطاب العالم الجديد.
حديث رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، الذي اعتبر أن لـ «روسيا مكانة جيدة في عيون الدول الإفريقية نظراً لأنها لم تكن يوماً قوةً استعمارية» يؤكد على أن روسيا تعطي الدول الإفريقية شكلاً جديداً ومختلفاً للعلاقات الدولية، فهي تشطب الديون بدل استغلالها كأداة للابتزاز السياسي، وتجري هذه العلاقات بشكل من الاحترام المتبادل، لذلك ذكّر الرئيس الروسي بالعلاقات السوفييتية الإفريقية المتينة، والتي قامت على دعم هذه الدول في صراعها مع الاستعمار، مشيراً إلى أن الوقت اليوم «يتطلب إقامة مثل تلك العلاقات وتطويرها»، وهذا ما يمكن أن يكون حائط صدٍ متين بوجه الاستعمار الجديد، ويسمح لإفريقيا بإنشاء علاقات دولية جديدة تختلف جذرياً عن علاقتها مع الدول الغربية التي لا تزل إلى اليوم تنظر إلها بوصفها مستعمرات

معلومات إضافية

العدد رقم:
938
آخر تعديل على الجمعة, 16 نيسان/أبريل 2021 16:23