واشنطن تفقد عقلها!
لا يمر اسبوع دون مؤشرات جديدة على تراجع وزن ودور الولايات المتحدة الأمريكية دولياً وازدياد انكفائها وعزلتها، مما يفسح المجال أكثر فأكثر للعالم بأن يتنفّس.
من مصر وتوقيف شحنات النفط في السويس والناتو العربي، إلى تركيا وس-400، ثم الملف النووي الإيراني وتصنيف الحرس الثوري الإيراني بالإرهاب، وليس أخيراً صفقة القرن وغيرها من التفاصيل التي جرى تداولها مؤخراً. ولكثرتها، فقد يضيع المتابع ويرى فيها خطأً قدرة واشنطن على الإلمام بكل هذه المسائل، لكن الواقع عكس ذلك، فكثرتها وتكاثرها ناتج عن عدم قدرتها على حلّ أي تفصيلٍ ومهما كان جزئياً منها، بل وتتعارض مع حلفائها حولها.
ثنائية دولار- سلاح تتماوت
تحكّمت أمريكا طوال العقود الماضية، وابتزت العالم من خلال قوّة ثنائية الدولار- السلاح، بعلاقتهم كسيف ودرع يحمي أحدهما الآخر، فبلحظة خطر على الدولار يبرز السلاح، وبلحظة الضغط على السلاح الأمريكي يبرز الدولار وعقوباته. ومن خلال هذه الثنائية بالإضافة إلى العديد من العوامل الأخرى بلا ريب، اقتحمت واشنطن جدران دول العالم محصّلة ريعاً اقتصادياً وسياسياً فارضة بيئة أمنية تتناسب بهذا الحدّ أو ذاك مع مصالحها. لكن مع انفجار الأزمة الرأسمالية وبدء تغيّر موازين القوى الدولية، تتراجع قدرة تأثير هذه الثنائية بترابطها، وكل خطوة تراجع منها تجعل من لاحقتها أسرع وأقسى. وبغياب واشنطن تبرز القوى الدولية الجديدة الصاعدة لتغيّر هذه المعادلة دولياً لصالحها، وبالتوافق مع مصالح الدول المتأثرة منها. ولعل العناوين الأبرز في الفترة الماضية كانت تركيا ومصر... فكلتا الدولتين لهما من المقومات ما يجعلهما قوتين إقليميتين ذاتا تأثير في المنطقة، وخسارة الأمريكيين لهما تعني خسارتهم للمنطقة ككل بالمعنى الجيوسياسي للأمر، فبالجانب الاقتصادي تسير التحولات موضوعياً باتجاه العلاقات مع الشرق وتحديداً الصين، والتي بدأت تُعبّر عنها قوى موجودة داخل كلتا الدولتين، بالإضافة إلى العلاقات السياسية الدبلوماسية التي تتقوى باستمرار مع الجانب الروسي، وصولاً لتفاهمات عسكرية ومبيعات سلاح ضمن اتفاقيات مغايرة في نهجها للمصلحة الأمريكية ومتوافقة مع المصالح الوطنية والسيادية لهذه الدول... إن هذه التحوّلات تشكّل نقطة حساسة جداً بالنسبة لواشنطن على الصعد الثلاثة: اقتصادية وسياسية وأمنية، ليجري تراجعها ودفعها تدريجياً إلى الخارج، ليصبح تأثيرها صفراً، أي: تخسر امتدادها تماماً.
واشنطن «الإنتحارية»
بناء على هذه التطورات وما تمثله من تهديد لواشنطن، دأبت على طول الخط للضغط وإعاقة هذه التفاهمات الناشئة بين تلك الدول مع الشرق، فبالنسبة لتركيا بذاتها واتفاقيات السلاح بينها وبين روسيا من جهة وبوجودها ضمن ترويكا أستانا من جهة أخرى، دفعت واشنطن نحو توتير الأوضاع داخلها من محاولة الانقلاب الفاشلة إلى توريط الأتراك بإسقاط الطائرة الروسية، وأخيراً العقوبات الاقتصادية المتزايدة، لكن ومع كل خطوة تقوم بها واشنطن في هذا الاتجاه، كانت تنتهي بتقارب أكثر وتفاهمات أوسع بين تركيا وروسيا... أمّا حول ترويكا أستانا، فتمثّل هذه الخطوات بربطها مع تعقيد الأمريكيين للملف النووي الإيراني وتصنيف الحرس الثوري الإيراني كـ «منظمة إرهابية» من جانب واحد، تتوضح حالة الاستماتة أو «الإنتحارية» الأمريكية لفرط هذا التحالف لما يمثله من خطر على تواجدها في المنطقة أيضاً، فهذه المنظومة بوصفها نواة إقليمية قادرة على معالجة المشاكل انطلاقاً من مصالحها. وبالنسبة لمصر تمارس واشنطن ضغوطاً مشابهة عليها، مثل موضوع شراء طائرات (سو35)، والتهديد الأمريكي بعقوبات عليها. بالمقابل فإن اعتذار مصر عن المشاركة في ما سُمّي بالـ «ناتو العربي»، وبغيابها كقوة عسكرية كبرى، عن وجودها ضمنه يجعل من هذه الفكرة أمراً غير قابلٍ للبدء فيه على الأرجح، ناهيك عن قدرته على الاستمرار أساساً، كأيّ من التحالفات العسكرية العديدة التي جرت وفشلت سابقاً في دول الخليج.
«إسرائيل» آخر المعاقل
إحدى المسائل الأساسية بالنسبة لواشنطن في المنطقة، هي الكيان الصهيوني. و«إسرائيل» كقاعدة ونقطة ارتكاز لها عاثت من خلاها توتراً هنا، وتشكل هذه النقطة آخر وجودٍ أمريكي. مع دخول روسيا على خط القضية الفلسطينية مؤخراً، وازدياد التفاهمات ضمن المنظومة الإقليمية الجديدة المتمثلة في ترويكا أستانا، ومع المؤشرات المتعاظمة بميل علاقات دول المنطقة نحو الشرق اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، تجعل من هذه القاعدة قاب قوسين أو أدنى من تفككها وزوالها بما هي عليه الآن... وبفشل واشنطن عن استكمال مشروع الفوضى عبر الثنائيات القومية والدينية والطائفية، عادت لتفعيل التناقضات الأساسية والوطنية بدءاً من نقل السفارة إلى القدس وليس انتهاءً «بضمّ الجولان» في الفترة التي تسبق إطلاق ما سُمّي «صفقة القرن» الأمريكية بوصفها «حلاً» للصراع العربي- الإسرائيلي... لتشكل هذه الخُطى مجتمعة–مع ما يجري تسريبه من هذه الخطة- محاولة لتعقيد الأوضاع في المنطقة وإعاقة التفاهمات والتقدّم فيها.
الأوروبيون– ربما- يتعلمون
إن هذه الخُطى جملةً وتفصيلاً تصدر من الجانب الأمريكي وحده دوناً عن حلفائه الغربيين، بحكم الأزمة واشتدادها، بل ويبدو واضحاً عدم الاتفاق الأوروبي- الأمريكي حولها جميعاً، حيث لم يعد بالإمكان اليوم استمرار أوروبا بتحالفاتها القديمة مع واشنطن، فإما أن يغرقوا جميعاً أو تغرق أمريكا وحدها أولاً. إن التوازن الدولي الجديد يفرض شكله: تحقيق التكافؤ الاقتصادي، يعني تكافؤاً سياسياً وعسكرياً، والذي يلغي بدوره منطق «الأقطاب» بوصفها تنافسية قائمة على «تحقيق الربح والمكاسب والهيمنة»، وكأيّ من القوى القديمة دولاً وحكومات وأحزاب، من لن يتكيّف مع هذا التوازن الجديد بفضاءاته، سوف ينقرض.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 909