«إينستكس»: ضربة أوروبية للعقوبات الأمريكية
بعد أشهر من الجدل، وجهت أوروبا ضربة للعقوبات الأمريكية أحادية الجانب على إيران، من خلال الإعلان يوم الخميس 31/1/2019 عن آلية مالية خاصة تتيح الحفاظ على العلاقات التجارية مع إيران وتجاوز العقوبات.
تم الإعلان عن الآلية الجديدة من قبل الدول الثلاث: بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في بيان أصدرته عقب اجتماع لوزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في بوخاريست، وهي تحمل اسم «إينستكس»، أو Instrument In Support of Trade Exchange, «INSTEXS».
«إينستكس» في السياق الدولي
للآلية الجديدة دلالات عدة، فبالإضافة إلى أنها تسهّل التبادل التجاري بين دول أوروبا وإيران، فإنها تعكس بشكل أعمق التغير الجاري في المنظومة الدولية، بما يشمله من تراجع الهيمنة الأمريكية، وتغير منطق التحالفات الذي كان سائداً حتى وقت قريب.
وكان قد أُعلن عن هذه المبادرة بشكل مبدئي في أيلول عام 2018، على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، كخطوة هامة نحو إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني، الذي تم تعليقه نتيجة خروج الولايات المتحدة أحادي الجانب في آب الماضي. سبقها تفعيل أوروبي لـ«قانون التعطيل» الذي اُقر في عام 1996، الذي يسمح للشركات والمحاكم الأوروبية بعدم الامتثال للقوانين حول العقوبات التي يتخذها بلد ثالث.
وعلى الرغم من أنّ تطبيق الاتفاق قد يستمر بمواجهة بعض الصعوبات، إلّا أن الآلية الأوروبية الجديدة تمثل تحديّاً للإدارة الأمريكية، التي تواجه معركة صعبة في إقناع بقية العالم بسلوكها وعقوباتها.
ولا يقتصر موقف الإدارة الأمريكية الصعب في علاقتها مع الدول الأخرى، بل يشمل أيضاً الداخل الأمريكي وانقساماته، فقد كشف تقرير جديد للاستخبارات الوطنية الأمريكية حول تقييم التهديد العالمي، تناقضاً مع ادعاءات الإدارة الأمريكية بأن إيران تواصل السعي للحصول على أسلحة نووية، مما دفع ترامب إلى وصف قادة استخبارات بلاده، بـ«السلبية والسذاجة»، فيما يتعلق بإيران.
كيف ستعمل «إينستكس»؟
حسب البيان الصادر عن وزراء خارجية الدول الثلاث، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والتي تم اختصارها إلى مجموعة «E3»، فإن الآلية الجديدة «ستركز أعمالها في المرحلة الأولى على القطاعات الأكثر أهمية بالنسبة إلى الشعب الإيراني، بينها الأدوية والمعدات الطبية والمنتجات الزراعية». ستكون «إينستكس» شركة مقرها باريس، يديرها خبير مصرفي ألماني، بينما تتولى بريطانيا رئاسة مجلس الإشراف. وحسب التقارير المتداولة، فإن الآلية الجديدة ستتضمن تدابير مقايضة تجارية بين الاتحاد الأوروبي وإيران، مع بعض أشكال الاعتمادات المالية الافتراضية التي سيتم تطبيقها كعملة.
وبشكل عام فقد أشار وزير الخارجية البريطاني، جيرمي هانت، إلى أنّ مجموعة الدول الثلاث ستعمل عن كثب على معالجة جميع الجوانب التقنية والقانونية لتفعيل هذه الآلية، بما يشمل العمل مع إيران لإنشاء الهياكل النظيرة اللازمة. الأمر الذي أكد عليه نائب وزير الخارجية الإيراني، عباس أراغتشي، بالقول: بأنه يجب على إيران أن تنشئ شركة رديفة خاصة بها لكي تنجح خطة التجارة.
من جهة أخرى أشار البيان إلى أن الآلية الجديدة «ستعمل وفق أعلى المعايير الدولية في إطار قضايا مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، مع الالتزام بعقوبات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة» وأن المجموعة تدعو إيران إلى تطبيق التزاماتها المتعلقة بهذا الخصوص.
وكما أكدت مجموعة الدول الثلاث على عزمها توسيع «إينستكس» لتشمل دولاً أوروبية أخرى، فإن الآلية الجديدة تتيح- لأطراف غير أوروبية أيضاً، ممن يرغبون بالتجارة مع إيران- التعامل وفقها. الصين بدورها رحبت بقوة بالآلية الأوروبية الجديدة للحفاظ على الاتفاق النووي، والعلاقات التجارية مع إيران، وأعربت عن عزمها الالتحاق بها سريعاً.
وهذا ما يفتح الاحتمال أمام أن تتوسع «إينستكس»، لتغدو أساساً لمنظومة دولية جديدة، تُسرّع من الاصطفافات الدولية الجديدة وتزيد العزلة الأمريكية من جهة، وتساعد من جهة أخرى على تجاوز العقوبات الأمريكية ليس فقط إيران، بل لتشمل أيضاً دولاً أخرى مستهدفة أمريكياً. ومع إمكانية تطور أدوات الآلية الجديدة، فقد تتسارع عملية البحث عن بدائل للأدوات المالية الأمريكية بما فيها الدولار، ونظام الدفع المالي «سويف».
وهم أمريكي مستمر
رغم الواقع الحالي، فإن الولايات لا تزال تتوهم في قدرتها على فرض ما تريد، فبعد الإعلان عن الآلية الأوروبية الجديدة، كرر المتحدث باسم الخارجية الأمريكي موقف بلاده، «بأن الكيانات التي تستمر بالانخراط في نشاطات خاضعة للعقوبات ضد إيران، معرضة لعواقب وخيمة قد تشمل فقدان القدرة على الوصول إلى النظام المالي الأمريكي، والقدرة على التعامل التجاري مع الولايات المتحدة، أو الشركات الأمريكية»، وأن الوزارة «تتابع عن كثب» التقارير الخاصة بالآلية الأوروبية للحصول على تفاصيل حول ما يمكن أن يحدث بالضبط، وفي وقت سابق كانت قد صدرت تحذيرات من الإدارة الأمريكية بأنَّ واشنطن ستفرض غرامات وعقوبات على الاتحاد الأوروبي في حال حاول الالتفاف على العقوبات ضد إيران. لكن هل ستنجح الإدارة الأمريكية فعلاً في تنفيذ تهديداتها وعقوباتها؟
لا شكّ أن الأهمية السياسية لـ «إينستكس» تفوق أهميتها الاقتصادية، فهي تعكس خطوة إلى الأمام في استقلال سياسة أوروبا الخارجية عن الولايات المتحدة، وتمثل إمكانيةً للالتفاف على وسائل العقاب الأمريكية، وتأريض جدواها.
وهو الأمر الذي يؤكد من جديد على تراجع واشنطن، وازدياد عزلتها، وهو ما يعني في نهاية المطاف أنّ الأفق أصبح مفتوحاً أمام تغيرات جدية على مستوى العالم، وعلى المستوى الإقليمي والمحلي. إن سياسة الولايات المتحدة أصبحت في حالة يُرثى لها على أكثر من صعيد، وانعكست عليها مزيداً من المشاكل، وهذا ما سيدفع الولايات المتحدة إلى المزيد من الانكفاء وتغيير سياساتها.