واشنطن ومعاهدة الصواريخ «لا معلّق ولا مطلّق»
نفّذت واشنطن تهديدها المطوّل، حول الانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، بصيغة أقرب ما تكون بالطفولية، تنمّ عن تردّدٍ وضعفٍ، ومحاولة الإيهام بتأمين خطوة للتراجع عنها.
أعلن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية «مايك بومبيو» يوم الجمعة الماضي «تعليق» بلاده العمل بمعاهدة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، بعد زمنٍ طويل من التهديد والوعيد بالانسحاب، مضيفاً أنّ بلاده ستمنح روسيا مهلة مدتها 6 أشهر «لإنقاذ الاتفاقية» وإلّا سينتهي العمل بالمعاهدة... وأوصلت وزارة الخارجية في اليوم التالي إعلانا غير رسميًّ صِيغَ في الصحف بكونه «نقلاً عن مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية» بأن «الولايات المتحدة تحتفظ لنفسها بالحق في سحب المذكرة بشأن انسحابها من المعاهدة قبل انتهاء فترة ستة أشهر» والذي يعني تأمين خطوة تراجعها إعلامياً لتخفيف حجم الحرج إن حصلت من جهة، ومن جهة أخرى تظهر كرسالة سياسية للأطراف المقابلة تبدي بها عدم جديتها بالانسحاب، ولكن ورغم ذلك لا يمكن الأخذ من واشنطن «لا حق ولا باطل» عبر ألاعيبها المعتادة كهذه.
روسيا تردّ بالمثل
بالرد على إعلان واشنطن، قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالمثل، حيث أعلن تعليق موسكو التزامها بمعاهدة نزع الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى، مؤكداً أن روسيا ستباشر بتطوير صواريخ فرط صوتية أرضية متوسطة المدى، وأشار إلى أنّ روسيا لن تنشر الصواريخ في أوروبا أو مكان آخر ما لم تقم واشنطن بذلك، كما وجه لوزارتي الخارجية والدفاع بعدم المبادرة إلى إجراء مفاوضات جديدة مع واشنطن حول قضايا نزع الأسلحة، حيث كانت روسيا طوال الفترة السابقة من التهديد المتواصل تعمل على تقديم مبادرات ودعوات حوار وإلخ لإنقاذ المعاهدة دون جدوى...
لكن، وبعد إعلان واشنطن السابق ورد موسكو عليه، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رغبته في مناقشة اتفاقية جديدة للرقابة على الأسلحة بعد انسحاب واشنطن من المعاهدة، أيّ حلم بإنشاء معاهدة على مقاييس واشنطن ولمصلحتها، متناسياً حجم ووزن الولايات الأمريكية المتحدة اليوم دولياً، وسقوطها عن عرش شرطي العالم.
أوروبا بين فكّي كماشة
إن أوروبا ستكون المتضرر الأكبر أمنياً من هذه العجرفة الأمريكية نتيجة موقعها الجغرافي بين عالمي الشرق والغرب التقليديين، ليعلن الأمين العام لحلف الناتو «ينس ستولتنبرغ» أن الحلف لا يعتزم نشر صواريخ نووية تطلق من الأرض في أوروبا... وقالت مفوضة الاتحاد الأوروبي للأمن والسياسة الخارجية «فيديريكا موغيريني» خلال مؤتمر صحفي في ختام اجتماع غير رسمي لوزراء الخارجية الأوروبية: «أمنيتنا ودعوتنا هي الحفاظ على المعاهدة مع تطبيقها كاملة من قبل الطرفين».
الأمريكي البائس
في الحقيقة، وفي ظلّ الانقسام العميق الجاري في الإدارة الأمريكية، لا يمكن معرفة نوايا واشنطن بدقة حول المعاهدة مستقبلاً، فكل تصريح يخرج من أحد، يظهر آخر ويصرّح نقيضه، وكلّ موقف يُتّخذ يخرج آخر ويؤمّن خطّ الرجعة عنه، ولكن لفهم السلوك الأمريكي عموماً لا ينبغي تناسي عملية تراجعه وانكفائه للخروج بأقلّ الخسائر، فهذه سِمته اليوم، ومعاهدة الصواريخ هذه ليست خارج هذه المعادلة، فجلّ ما تسعى إليه واشنطن عبر تعليقها وتهديدها المطوّل بالانسحاب، هو محاولة لتحقيق مكاسب سياسية ومالية حتّى عبر الضغط والابتزاز، من المياه البحرية جنوبي وشرقي الصين عسكرياً، إلى أوروبا وحلف الناتو بديونه، مروراً بالمحاولات اليائسة لشيطنة الدور الروسي دولياً وسياسياً.