عدونا: الشرذمة
يستمر الاحتلال بتفعيل الانقسام الفلسطيني كواحدة من أهم الأوراق الرابحة للعدو (الإسرائيلي) في الصراع، والتي يتمسك بها بحزم في لحظة الضعف غير المسبوقة التي يمر بها، فلا الظروف الدولية إلى جانبه، ولا الإقليمية، بل أكثر ما يسعفه الانقسام والرخاوة التي تشوب القوى السياسية الفلسطينية.
وبالمقابل فإن الساحة الفلسطينية تضج بالأصوات التي تدرك أنّ واحدة من أهم أدوات مهاجمة العدو، هي: مهاجمة الانقسام، والسير نحو توحيد الصف الفلسطيني، وخلق فضاء سياسي جديد يليق بكفاح الشعب الفلسطيني.
تنشر قاسيون فيما يلي مقالاً للكاتب والسياسي الفلسطيني د. مصطفى البرغوثي، الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، يُذكّر فيه بكل ما مارسته سلطات الاحتلال لتثبيت الانقسام السياسي والجغرافي بين الفلسطينيين، وهذا نصه:
«منذ وقع احتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة قبل واحدٍ وخمسين عاماً، والاحتلال يسعى إلى استخدام كل أدواته لتجزئة هذه المناطق وشرذمتها.
استخدم أولاً: سلاح الاستيطان، وما بدأ ببضعة مستوطنات أنشأها حزب العمل حول القدس، وفي الأغوار وعلى حدود الخط الأخضر، تحول إلى هجوم جارف بعد توقيع معاهدتي كامب ديفيد واتفاق أوسلو، فتجاوز عددها اليوم مائتين وستين مستعمرة وبؤرة استيطانية جديدة.
ثانياً: استخدم الحواجز العسكرية الثابتة والمتحركة، والتي لا يقل عددها عن ستمائة وأربعين حاجزاً. واستخدم جدار الأبرتهايد العنصري لتقطيع أوصال الضفة الغربية، وتحطيم ما بُني من منظومات صحية وتعليمية وتنموية فيها. ثالثاً: استخدم شوارع الفصل العنصري المحرمة على الفلسطينيين والتي تخترق الضفة الغربية طولاً وعرضاً، وآخرها شارع الأبرتهايد في القدس لتحطيم التواصل الجغرافي، واخترع مسميات كالمناطق العسكرية المغلقة، وأراضي الدولة المحرمة أيضاً على الفلسطينيين، لحصر المساحة الجغرافية التي يتحرك فيها الفلسطينيون.
رابعاً: استخدم كارثة تقسيم الضفة إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج) ليمعن في تقطيع الأوصال وليكرس 62% من مساحة الضفة للمستعمرين المستوطنين. وقبل ذلك، وفي بداية التسعينات فصل القدس بالكامل عن الضفة والقطاع، وصعّد تدريجياً هذا الفصل حتى عُزلت القدس بالكامل. واتبع ذلك، بعد توقيع اتفاق أوسلو، بقطع التواصل بين قطاع غزة والضفة الغربية. والهدف كان، وما زال: فصل غزة عن الضفة بالكامل، وتجزئة الضفة إلى 224 جزيرة محاصرة بالمستعمرات والحواجز والجدار والقوانين الجائرة. والهدف الأكبر كان تحويل الأراضي المحتلة، من أرض فلسطينية فيها أجسام غريبة هي المستعمرات «الإسرائيلية»، إلى محيط «إسرائيلي» فيه تجمعات فلسطينية على شكل جزر محاصرة، مجزأة، ومعزولة.
وكل ذلك لمنع قيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً، وسكانياً، وتكريس منظومة أبرتهايد عنصرية تضع الفلسطينيين في ظروف اقتصادية واجتماعية معقدة وصعبة، على أمل أن يدفع ذلك الكثير منهم للرحيل. وللأسف لا يلاحظ بعض السياسيين، كيف ينعكس ما فرضه الاحتلال من وقائع جديدة بالقوة العسكرية على السلوك الإنساني للفلسطينيين. لم يعد أحد يتذكر كيف كنا نصل بسياراتنا من أية مدينة في الضفة إلى قطاع غزة خلال ما لا يزيد عن ساعة ونصف. ولم يعد أحد يتذكر كيف كانت المسافة من رام الله لبيت لحم لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة، ولا كيف كان الوصول للقدس يتم خلال أربع عشرة دقيقة. هل يتذكر أحد اليوم كيف كان طلاب غزة يدرسون في كل جامعات ومعاهد الضفة؟ وغالبية الأجيال الشابة في الضفة لم تزر يوماً قطاع غزة والعكس صحيح، بل يندر أن تجد تواصلاً عادياً بين محافظات الضفة الغربية، ناهيك عن زيارة أبناء شعبنا في الداخل. لا يختلف اثنان عاقلان على أن فصل الضفة عن القطاع هو الهدف الأهم لسياسة الاحتلال، ومع ذلك فإن الانقسام يتدحرج بتسارعٍ مخيفٍ ليتحول إلى انفصال خطيرٍ ومريع.
أكثر ما يقلقنا
كتبت قبل عام، «أنه ما من أمر يقلق الإنسان الفلسطيني، وكل من يدعم صادقاً نضالنا، مثل قضية الانقسام الداخلي، وتتابع مظاهر الشرذمة والانقسامات. وما من أمر يُحرج الفلسطيني أمام الآخرين من مشاهدة قيادات من أبناء شعبه يتقاذفون التُّهم، وينشغلون بالصراعات مع بعضهم، والمحتلون يتفرجون عليهم ويتشفون بنا وبشعبنا». وإذا كنا نتفق على أن السياسة «الإسرائيلية» هي التي مهّدت، وغذت، وشجعت بأفعالها القسرية عملية الفصل، وحاربت بكل شراسة كل جهد للوحدة، بما في ذلك إسقاط حكومة الوحدة الوطنية الوحيدة في تاريخنا، فلا يمكن إلا أن نتفق على أن إنهاء الانقسام ودرء الانفصال هو أهم شكل لمقاومة الاحتلال اليوم. طوال الأيام الماضية تعمّد الاحتلال أن يعمق اقتحاماته للمسجد الأقصى، وأن يشدد الحصار على قطاع غزة، وأن يقتحم يومياً مدينتي رام الله والبيرة، سعياً إلى فرض أمرٍ واقعٍ جديدٍ بجعل وجود جيش الاحتلال في شوارع المدن أمراً عادياً. وطوال الأيام الماضية تعمَّد الاحتلال إغلاق شوارع ومنافذ قرى ومدن عديدة، ليذيق أهلها المعاناة المُرّة أثناء تنقلهم. كلنا مستهدفون، وكُلنا مهددون، ولن نكسر الشرذمة، ونصد التهديد، إلّا بالوحدة . والناس تتعطش للأمل والإنجاز والانتصارات، ليس على بعضنا، بل على العدو الجاثم فوق صدورنا جميعاً».