العين على البحر الأحمر...مفترق الطرق الإستراتيجي
يُعرف البحر الأحمر تاريخياً بأهميته الإستراتيجية، كمفصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، ومفترق طرق دولي هام، له تأثيره الكبير على تبادل النفط والتجارة الدولية والملاحة العالمية كذلك. وعلى ضوء التغيرات الجارية في النظام العالمي والعلاقات الدولية، يعود هذا البحر مجدداً ليصبح موضع نزاع في سياق تثبيت ميزان القوى الدولي الجديد.
مؤخراً تم الإعلان عن مبادرة سعودية لإنشاء تحالف يضم سبعَ دول مشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن، وهي مصر والأردن واليمن والسودان وجيبوتي والصومال بالإضافة إلى السعودية، ترافق هذا مع الإعلان الأمريكي عن إستراتيجية جديدة في إفريقيا، وبالأخذ بعين الاعتبار أهمية هذا الممر في المشاريع الدولية الصينية والروسية الجديدة، فإنه من المهم الوقوف عند أهمية هذا الموقع في ظل المنافسة الدولية والإقليمية الجارية.
التحالف السعودي: واقع أم قفزة في المجهول؟
لم يوضح الإعلان السعودي عن تحالف البحر الأحمر، طبيعة هذا الكيان أو تفاصيله، لكن وحسب تصريحات وزير الخارجية، عادل الجبير، فإن الهدف منه: «تعزيز الاستقرار والأمن والتجارة والاقتصاد في المنطقة»، و«منع أية قوى خارجية في لعب دور سلبي»، ما اعتبرته غالبية التحليلات إشارة لإيران، بالإضافة إلى تركيا وقطر.
من المهم هنا الإشارة إلى أن الإعلان السعودي عن هذا التحالف أعقب الدعوة الأمريكية إلى إنهاء الحرب على اليمن وبدء المفاوضات اليمنية، وهو ما شكل إعلاناً صريحاً للفشل السعودي- الأمريكي في هذه الحرب، وواقع التوازنات الإقليمية التي لا تميل في محصلتها لصالح هاتين الدولتين، لذا قد تكون المبادرة السعودية الجديدة مجرد حفظ لماء الوجه، وإيحاء زائف بالقوة.
وكان قد سبق مبادرة تحالف البحر الأحمر الإعلان عن تحالفات أخرى، كالتحالف الإسلامي العسكري، والناتو العربي، لكن أيّاً من هذه التحالفات لم تمضِ قدماً ولم تشهد إنجازاً على أرض الواقع، كنتيجة للوقائع الاقتصادية، والتوازنات السياسية والعسكرية في الإقليم وفي العالم. لذا فإن هذه المبادرة قد ينتهي بها المطاف كما انتهى بالمبادرات التي سبقتها.
كانت إيران قد هددت سابقاً بإغلاق مضيق هرمز، أحد أهم الممرات المائية والواقع في منطقة الخليج العربي، وإعاقة صادرات النفط الخليجية كرد على العقوبات الأمريكية عليها، لذلك قد يكون تحالف الدول المطلة على البحر الأحمر هدفه التحكم بهذا الممر المائي الهام أيضاً في رد على التهديدات الإيرانية، وهي الخطوة التي تتوافق بالدرجة الأولى مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
ويمكن القول: إن محاولات التحكم بالبحر الأحمر وخليج عدن، تتوافق أيضاً مع التخوف الأمريكي من المنافسة الأمريكية الصينية في القارة الإفريقية وهو ما بدا وضوحاً في إستراتيجيتها الجديدة المسماة «إفريقيا المزدهرة».
البحر الأحمر معبر للمنافسة في إفريقيا
الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا، ورغم عدم وضوح تفاصيلها، عنوانها الأساس التباكي الأمريكي على قدرة واشنطن في الحفاظ على مصالحها وتعزيز هيمنتها في القارة، نتيجة للشراكة المتنامية مع الصين والمشاريع الروسية الجديدة. وحسب جون بولتون، مستشار الأمن القومي، الذي أعلن عن هذه الإستراتيجية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على سحب قوات أمريكا العسكرية من هناك في مقابل إعادة ترتيب الأولويات لصالح نشاطها الاقتصادي، وتعزيز «السيادة القانونية». وتتناغم هذه الإستراتيجية مع أولويات إستراتيجية الدفاع الأمريكي الجديدة في التصدي لتهديدات روسيا والصين.
أي: طالما أن واشنطن ترى في تهديدات روسيا والصين لمصالحها حول العالم له الأولوية في إستراتيجيتها الدفاعية، وطالما أنها ترى هذا التهديد يتصاعد في إفريقيا، فإن البحر الأحمر يصبح مفتاحياً اليوم لدى الولايات المتحدة في مواجهة منافسيها، وهو ما يعزز فكرة توافق الإعلان السعودي عن تحالف البحر الأحمر مع المصالح الأمريكية اليوم. يضاف إلى ذلك المنافسة الإقليمية المتنامية في هذا النطاق بين السعودية وتركيا وقطر.
تتصاعد المنافسة العسكرية في دول القرن الإفريقي، حيث لدى الصين أول قاعدة عسكرية خارجية في جيبوتي، التي تضم أيضاً أربع قواعد عسكرية من بينها واحدة أمريكية. و وروسيا هي أيضاً مورد كبير للأسلحة إلى المنطقة وتتطلع إلى إقامة قاعدة عسكرية هناك، لذلك تخشى واشنطن من النفوذ الصيني والروسي العسكري المتصاعد في هذا الجزء الإفريقي. وفي الصومال هنالك اتفاق مع الإمارات لإنشاء قاعدة عسكرية في بربرة، كما يوجد فيها أكبر قاعدة عسكرية تركية في الخارج، وقد يكون لتركيا قاعدة أخرى في جزيرة سواكن السودانية التي تتولى بالشراكة مع قطر إدارتها وإعادة تأهيلها، ويمكن القول: إن تركيا هي أقوى حليف للصومال وتقوم بتدريب جيشها، وهي أيضاً مصدر رئيس للاستثمار في إثيوبيا، لذلك تتخوف كلٌّ من السعودية والإمارات من النفوذ التركي المتزايد في القرن الإفريقي.
إن تنامي ملامح العسكرة في محيط البحر الأحمر يعكس أهمية هذه المعبر العالمي اقتصادياً، إذ ما يقرب 700 مليار دولار من البضائع- معظم التجارة البحرية بين آسيا وأوروبا- تعبر البحر الأحمر كل عام، أي20% من حركة التجارة الدولية، ونحو 3,2 مليون برميل نفط يومياً يمر من مضيق باب المندب إلى أوروبا وآسيا والولايات المتحدة، بما يقدر بنحو 30% من حجم البترول في العالم.
للبحر الأحمر أهمية كبرى أيضاً لدى الصين ومشروعها طريق الحرير البحري في الربط بين آسيا وإفريقيا، وفي الشراكة الصينية الإفريقية المتنامية، كما يمكن للاقتراح الذي قدمته السودان لروسيا والمتضمن مساعدة الشركات الروسية في بناء سكك حديدية بين الشرق والغرب والشمال والجنوب عبر إفريقيا أن يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية الإفريقية، ويعزز شراكتها مع روسيا.
بناءً على ما سبق فإن أهمية البحر الأحمر اقتصادياً وعسكرياً، تضعه اليوم في صلب الاهتمام الدولي، لكن ما يمكن التأكيد عليه هو أنه لن يعزز التواجد الصيني والروسي في إفريقيا سوى المنطق القائم على المنفعة المتبادلة، ولم يعزز التراجع الأمريكي فيها سوى نهبها المستمر لشعوب القارة، لذلك فإن محاولات واشنطن استعادة سيطرتها بإستراتيجيات جديدة ودون أهداف مغايرة لن يجدىَ نفعاً. كذلك الأمر فإن التحالف العربي الجديد- إن كان جديّاً- لن يصل إلى هدفه المعلن بتحقيق استقرار الأمن والاقتصاد في المنطقة، دون الأخذ بعين الاعتبار المنطق الجديد في العلاقات الدولية وهو التعاون ضمن نظام متعدد الأقطاب، وليس فرض القوة والهيمنة وفق منطق القطب الواحد الذي أصبح من الماضي.