معاهدة الصواريخ وشراء مزيدٍ من الوقت
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نية بلاده الانسحاب من المعاهدة الروسية- الأمريكية حول الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى دون مبررات حقيقية، فما أسباب الانسحاب الأمريكي منها، وما تداعياته؟
إن هذا القرار الأحادي الجانب من قبل واشنطن حول المعاهدة ليس مُستغرباً على العموم، ولا هو بالأمر الذي تُهول له وسائل الإعلام المختلفة، فواشنطن تنفذ انسحابات بالجملة منذ مدة ليست بالطويلة حول اتفاقات مختلفة عسكرية وسياسية واقتصادية، كـ«الاتفاق النووي الإيراني» و«التجارة عبر المحيط الهادئ» و«اتفاقية المناخ» العالمية وغيرها.
والجدير بالذكر هنا أنه في عام 2002 عندما كانت الولايات المتحدة برئاسة جورج بوش، أعلنت واشنطن انسحابها من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، التي حالها كحال اتفاقية الصواريخ المتوسطة قد وُقعت بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في فترة الحرب الباردة.
حرب باردة جديدة؟
يجتهد بعض الصحفيين والمحللين في دراستهم لسلوك واشنطن الجديد، للاستنتاج بأن ما يجري هو سباق تسلح تتزعمه الولايات المتحدة، وهو عودة إلى فترة الحرب الباردة التي انتصرت فيها واشنطن وأدت لانهيار الاتحاد السوفييتي آنذاك، إلا أنه يغيب عن هؤلاء حقيقة تغيّر موازين القوى الدولية الجديدة، لا على صعيد حجم وإمكانات الدول الكبرى فحسب، مثل: أمريكا وروسيا والصين، بل وعلى تحالفاتهم والامتدادات الجيوسياسية الجديدة التي تأخذ شكلها يوماً بعد يوم، وتتطور بما يتناسب مع الواقع الدولي الجديد، ومن أهم هذه التغيرات بالمعنى الجغرافي فيما يخص هذه الاتفاقية وتداعياتها هي دول الاتحاد الأوروبي والكوريتين، ليغيب عنهم أيضاً واقع التوترات والخلافات الأوروبية- الأمريكية الجارية ومستقبل دول هذا الاتحاد باتجاه تحالفاتهم نحو الشرق عموماً، وفيما يخص الكوريتين بوحدتهم.
أوروبا كبش فداء
في الحقيقة، إن هذا الانسحاب مع سباق التسلح الجاري يمثل أداة ضغط وابتزاز على دول الاتحاد الأوروبي نفسها من قِبل واشنطن، فواقع تقاربها مع القوى الصاعدة يمثل تهديداً على ذاك الامتداد الجيوسياسي الأمريكي، ناهيك عن الابتزاز السابق من قبل واشنطن لأعضاء حلف «الناتو» «لدفع الأموال»، وواقع احتمالية تفكك هذا الحلف أساساً، مما يعرقل مؤقتاً احتمالية خروج أية دولة عضو منه، فمدى الصواريخ المعنية بالاتفاقية بين البلدين تكون نقطة التقائها الأراضي الأوروبية، التي هي تاريخياً كانت تُمثّل ميدان المعركة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، الأمر الذي دعا أوروبا لتحذير واشنطن من انسحابها هذا، وقالت على لسان «فيدريكا موغيريني» الناطقة باسم المكتب الإعلامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسات الأمنية بأن هذه المعاهدة «تشكل أساساً لهيكل الأمن الأوروبي منذ دخولها حيز التنفيذ قبل 30 عاماً»، وقد قال الرئيس الروسي بوتين أثناء مؤتمر صحفي في موسكو أيضاً، بأن قرار الولايات المتحدة يعرض شركائها الأوروبيين للخطر «إذا نُشرت هذه الصواريخ في أوروبا فإننا سنضطر طبعاً إلى الرد بالمثل».
محاولة لإطالة الوجود في كوريا
أما فيما يخص الصينيين فالأمر مختلف، حيث أن إنهاء هذه المعاهدة يتيح لواشنطن تعزيز وجودها العسكري على تخوم الصين وتحديداً كوريا الجنوبية، التي خسرت بها واشنطن امتدادها النووي عبر اتفاقية نزع السلاح الأخيرة بين الكوريتين، والتهدئة الحاصلة هناك، وما يتبعها من منطق خفض التوترات والحلول السياسية الجارية بعكس مصالح واشنطن، على الرغم من اختلاف حجم ترسانة الرؤوس النووية الشاسع بينهم وبين أطراف هذه المعاهدة. فحسب التصريحات الرسمية تمتلك الصين 280 رأساً نووياً من ضمنها الصواريخ متوسطة المدى، بينما تمتلك الولايات المتحدة 6450 رأساً، وروسيا 6850، مما يجعل حجج وذرائع الأمريكيين في هذا الصدد غير معقولة أمام المجتمع الدولي عموماً.
تأخيرُ ما هو قادم
إن هذه المقاربات والاحتمالات التي تجري إعلامياً توحي بأن لهذه الأرقام والتطورات تأثيراً على مجرى النشاط السياسي الدولي الجديد، أو تدفع لنشوب تلك الحرب الباردة، أو أكثر إلى حرب عالمية نووية، نقول بهذا الصدد ما قلناه سابقاً، إن توازن كَم ونوع السلاح النووي دولياً يجعل من قيمته وتأثيره صفراً بالمعنى الإستراتيجي رغم كل المسرحيات والتهويلات الإعلامية، وجُل ما لهذه الخلافات من أثر، هو محاولات عرقلة وتأخير قصيرة المدى من قبل الأمريكيين بوجه تثبيت منظومة العالم المتعدد الأقطاب، ليكون به للولايات المتحدة وزنٌ تحاول تحصيله اليوم عبر تنظيم تراجعها بأقل الخسائر الممكنة خلف كل هذه الأفلام والمسلسلات السياسية.