سباق تسلح الأرنب والسلحفاة

سباق تسلح الأرنب والسلحفاة

تُعتبر القوة العسكرية مثقالاً أساسياً في ميزان القوى الدولي إلى جانب القوة الاقتصادية، وبما أن العالم اليوم يتغير، فإن منسوب التسلح والعسكرة يرتفع، لينشأ بذلك سباق تسلحٍ جديدٍ بين القوى الكبرى.


يجري سباق التسلح اليوم في ظل تبلور نمط جديد من العلاقات الدولية، والانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب، من هنا فإن ارتفاع مستوى التسلح حمل معه تغيرات على صعيد الانتشار والتمركز والأهداف والنوعية عسكرياً، هذه التغيرات ستشكل بدورها دَفقاً جديداً لتثبيت منظومة دولية وإقليمية جديدة، بحيث تُسرع من تراجع دول وتُمكن دولاً أخرى.
أسلحة روسية حديثة.. ورطة أمريكية
المؤشرات على ارتفاع مستوى العسكرة عالمياً كثيرة، لكن ورغم ارتفاعها بالمجمل، فإنها تحمل في طياتها تفاوتات، معبرةً بذلك عن اختلاف القوة والموازين. فمنذ أن أعلنت روسيا في شهر آذار هذا العام- بعد انسحاب واشنطن من معاهدة إزالة الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى- عن امتلاك أنواع جديدة من الأسلحة لا مثيل لها ولا تستطيع المضادات الأمريكية التصدي لها، شكّل ذلك إعلاناً صريحاً لضرب التفوق العسكري الأمريكي روسياً. وكردّ فعلٍ، جنّ جنون الأمريكي، فأعلنت واشنطن عن اعتماد ميزانية دفاعية جديدة لعام 2019 حجمها 717 مليار دولار، وصفت بأنها الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، تزيد عن سابقتها بمبلغ 20 مليار دولار، خُصص فيها 40 مليار دولار لتحديث القوات الجوية، و65 ملياراً على تصميم رؤوس نووية صغيرة للغواصات، لكن ورغم رقم الميزانية الكبير بالفعل إلّا أنه وبالأخذ بعين الاعتبار نسب التضخم، والظروف الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة، يصبح رقم الميزانية تعبيراً عن حالة تراجع وليس تقدم.
الشرق 300 ألف... والغرب 45 ألفاً
في ردّ على مناورات الشرق (2018» التي جرت بين روسيا والصين ومنغوليا كأكبر مناورات في تاريخ روسيا الحديث، أي: منذ عام 1981، شارك فيها حوالي 300 ألف عسكري. أعلن (الناتو» عن إجراء أكبر مناورات له منذ الحرب الباردة، ستجري بمشاركة 45 ألف جندي فقط.
تستمر مناورات (الناتو» على الحدود الروسية، وهو ما تعترض عليه موسكو، وتستمر المناورات الأمريكية في بحر الصين الجنوبي وهو ما تعارضه بكين، بينما تتواجد قوات عسكرية أمريكية وروسية في شرق المتوسط، مع اختلاف أهدافها والغاية من هذا التواجد، ومع وجود الكيان الصهيوني كدولة نووية في المنطقة، والدعم العسكري الأمريكي للسعودية، ومع تطور الأسلحة الإيرانية، ماهي المآلات التي قد يفضي إليها ارتفاع مستوى التسلح والاحتكاك العسكري؟
الاحتمالات ليست مفتوحة!
إن ارتفاع مستوى التسلح يفتح الباب أمام احتمالين:
1- حرب مباشرة بين القوى الكبرى، وهو ما أصبح بعيداً اليوم، إذا لا يمكن الذهاب نحو حرب عالمية جديدة، بعد وصول مستوى الأسلحة النوعية الحديثة إلى قدرة تدميرية أكبر، مع التحول من السلاح التقليدي إلى السلاح النووي، أي: أن الردع النووي أصبح كابحاً لمثل هذا النوع من الحروب.
2- حرب بالوكالة، وهو ما تم الدفع باتجاهه من قبل الدول المتراجعة في عدة ساحات متل: العراق وسورية وليبيا، وهو ما يجري اليوم في اليمن، لكن هذا الخيار ليس مفتوحاً، إذ يجري تقليمه من قبل الدول الصاعدة من خلال تغيير المنظومة الإقليمية، وما تسليم روسيا منظومة الدفاع ((S300 لسورية سوى جزء من هذه الإستراتيجية، التي يبدو أن روسيا منفتحة اتجاه تعميمها.
تكلفة التسلح باهظة
من جهة أخرى، وبالأخذ بعين الاعتبار الأزمة المالية والاقتصادية التي يواجهها المركز الرأسمالي الغربي، والتي من المرجح انفجارها في القريب العاجل، يمكن القول: إن سباق التسلح بالنسبة للولايات المتحدة وهي في طور التراجع ليس كما هو الحال وهي في طور الصعود، فإذا كانت واشنطن قادرة فيما سبق على تمويل الإنفاق على التسلح من خلال طباعة الدولار دون ضوابط، فإنها اليوم غير قادرة على اللجوء لهذا الخيار بحكم الأزمة، وهو الواقع الذي يدفع واشنطن نحو ابتزاز الآخرين بغية تحصيل الأموال، كما هو الحال اليوم مع السعودية والأوروبيين. لكن حلفاء واشنطن يتمردون وينفضون من حولها، بحكم سلوكها الذي يدفع حتى أقرب الحلفاء للتمرد، مما يعني: دخول واشنطن في دوامة، إذا لا أموال في الداخل ولا دعم من الخارج، في الوقت الذي تنمو فيه قوى أخرى اقتصادياً وعسكرياً، فالتحالف الروسي الصيني اليوم يعني: تحالف عملاق عسكري مع عملاق اقتصادي، أي: قوة حقيقية ومتكاملة على الساحة الدولية لن تستطيع الولايات المتحدة مجاراتها، مما يجعل سباق التسلح بين أمريكا وروسيا اليوم يبدو وكأنه سباق بين الأرنب والسلحفاة يُنبئ بالنتيجة مسبقاً.
تعميم الصناعات العسكرية وإحلال السلام
سلمت روسيا مؤخراً منظومة ((S400 إلى الهند مقابل 6 مليار دولار، وتعد الهند من أهم شركاء روسيا في المجال العسكري التقني، حيث إن الجيش الهندي مزود بالأسلحة الروسية بنسبة 70%، ويوجد بين البلدين تعاون عسكري ضخم، كما تقوم الهند بصنع عدداً من الأسلحة الروسية وتطويرها على أراضيها، كذلك تعمل روسيا على دعم مفاعلات نووية في تركيا والصين ومصر وغيرها، وهو ما يشكل نموذجاً جديداً في العلاقات الدولية من حيث كسر الاحتكار ومنظومة التبادل اللامتكافئ، ويفتح الباب أمام تعميم الصناعات العسكرية المتطورة، ونشرها بما يحقق توازناً إستراتيجياً على صعيد العالم يُقوي منظومة الرّدع، ويضع حداً للتهورات العسكرية، مما يؤسس لعالم خالٍ من الحروب، يكون السلم سمته الأساسية. قد تحاول واشنطن حتى الرمّق الأخير التظاهر بالقوة، لكن صورة التراجع أصبحت متكاملة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، والتراجع هذه المرة لا يعني أن حرباً عسكرية جديدة قادرة على تغييره، فهذا الخيار اُستنفذ ولم يعد ناجعاً مع التوازنات العسكرية والاقتصادية الجديدة.