الجرّة التركية الأمريكية تنكسر!
«لن نستسلم، إن هاجمتمونا بدولاراتكم، فسنبحث عن طرق أخرى لتسيير أعمالنا» بهذه العبارة ردّ الرئيس التركي أردوغان على العقوبات التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية بحق تركيا، فما هي هذه العقوبات؟ وما سببها؟ وما هو مصير العلاقات التركية الأمريكية بعد هذا الخلاف؟
أقرّت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من العقوبات على تركيا بعد رفض الأخيرة تسليم القس «أندرسون» الأمريكي الجنسية، المتهم بالمشاركة بعملية الانقلاب العسكري التي حدثت في 15 تموز 2016، وذلك بالتعاون مع فتح الله غولن؛ المعارض التركي المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية.
وكانت محكمة تركية قد أخلت سبيل القس الأمريكي يوم 25 تموز الماضي، لكن وضعته رهن الإقامة الجبرية بعد احتجازه 21 شهراً في أحد السجون بأنقرة.
مضمون العقوبات الأمريكية
فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على كلّ من وزيري العدل والأمن الداخلي التركيين، وذلك بسبب «لعبهما دوراً بارزاً في توقيف أندرسون واعتقاله» بحسب ما قالته المتحدثة باسم البيت الأبيض. وتمثّلت هذه العقوبات، بحسب وزارة الخِزانة الأمريكية، في مُصادرة أية ممتلكات أو مصالح عقارية لكلا الوزيرين تحت الولاية القضائية الأمريكية، ويُحظر بشكل عام على الأشخاص الأمريكيين الدخول في معاملات معهم، وتجميد الأصول المالية التابعة لكليهما.
كما وأعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في وقت سابق عبر حسابه في تويتر: مضاعفة الرسوم الجمركية على واردات بلاده من الصلب «الفولاذ» والألمنيوم التركي.
أثر العقوبات
على الاقتصاد التركي
الضربة الكبيرة التي ألحقتها عصا العقوبات الأمريكية بالاقتصاد التركي ليست مستغربة، فبنية الاقتصاد التركي المرتبطة بشكل كبير بالمنظومة الغربية وعلى مدى زمني طويل أعطت هذه العقوبات قدرة كبيرة على التأثير سلباً بوضع الاقتصاد والليرة التركية.
فقد تراجعت الليرة التركية بنسبة 20% جرّاء الخطوة الأمريكية، وكانت العملة التركية قد هبطت بنحو كبير منذ مطلع الشهر الجاري، إذ تراجعت من نحو 5 ليرات للدولار سجلتها في مطلع آب، إلى 6,88 ليرة للدولار بتاريخ 13 منه. وكانت الليرة التركية قد واجهت العديد من الصعوبات منذ بداية العام الحالي حيث خسرت أكثر من 34% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي، الأمر الذي يدفع أسعار السلع اليومية نحو الارتفاع.
وتثير حرب تركيا التجارية مع ترامب، مخاوف من الركود في جميع أنحاء أوروبا بعد أن ضاعفت الولايات المتحدة رسوم الاستيراد على الفولاذ التركي والألمنيوم.
إجراءات للتخفيف
من وطأة العقوبات
أعلنت تركيا عن استعدادها لاستخدام الليرة التركية في مبادلاتها التجارية حيث قال أردوغان: «نستعد لاستخدام العملات المحلية في تجارتنا مع الصين وروسيا وإيران وأوكرانيا وغيرها من الدول التي نملك التبادل التجاري الأكبر معها». وأكد أن «تركيا مستعدة لتأسيس النظام نفسه مع الدول الأوروبية إذا كانت تريد الخروج من قبضة الدولار»، مضيفاً: «لا نقبل أبداً بهذا النظام الذي يعلن الحرب الاقتصادية على العالم أجمع ويفرض إتاوات على الدول من خلال التهديد بالعقوبات«.
وكان وزير المالية التركي قد طمأن المستثمرين بأن تركيا ستخرج من أزمة عملتها «أكثر قوة»، مشدداً على أن البنوك التركية قوية وعلى أن بلاده ستتجاوز خلافها مع الولايات المتحدة. وتلقى خبراء اقتصاديون تعليقات وزير المالية التركي بترحيب متحفظ، وتماسكت الليرة بعد تصريحاته. وارتفعت بصورة ملحوظة من مستوى متدن قياسي بلغ 7,24 ليرة للدولار سجلته في بداية هذا الأسبوع بدعم من إجراءات اتخذها البنك المركزي، وتعهد قطري بالاستثمار في تركيا. فضمن سياق التمرد العالمي الحاصل ضد الإرادة الأمريكية، أعلن أمير قطر عن أن بلاده ستستثمر في تركيا 15 مليار دولار بشكل مباشر، وذلك على شكل مشاريع اقتصادية وودائع واستثمارات.
ولكن سرعان ما عاودت الليرة لانخفاض قيمتها بعد تهديدات ترامب بزيادة العقوبات ما لم يتم الإفراج عن القس الأمريكي.
التركي يردّ الصاع صاعين
قالت الخارجية التركية في بيان لها: أنه «سيتم الرد بالمثل دون تأخير على هذا الموقف الأمريكي العدائي الذي لا يخدم أي هدف»، وبالفعل أعلن أردوغان أن بلاده ستقاطع المنتجات الإلكترونية الأمريكية، بعدما فرضت واشنطن عقوبات على أنقرة، وقال: «إذا كان لدى الولايات المتحدة آيفون، فيوجد سامسونغ على الجانب الآخر» في إشارة إلى قدرة تركيا على التخلي عن أمريكا في مبادلاتها التجارية. وقد اعتبرت هذه الخطوة التركية عنصراً مهماً يمكن أن تلعب عليه بقية الدول، بحيث تضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مواجهة مع الشركات الكبرى داخل بلاده، التي ستعتبره مسؤولاً عن خسارتها لأسواقٍ كبيرة في الجانب الآخر من العالم، مما سيؤدي إلى تعميق الشرخ داخل الإدارة الأمريكية المتصدعة.
كما أصدر أردوغان مرسوماً ينص على زيادات كبيرة في الرسوم الجمركية على بعض السلع المستوردة من أمريكا. وحسب المرسوم تزداد الرسوم الجمركية بنسبة 140%على واردات السيارات الأمريكية، و140% على واردات الكحول، و60% على منتجات التبغ، و60% على واردات مواد التجميل، و50% على الأرز، و20% على الغلال.
كذلك أعلن وزير البيئة والتطوير العمراني التركي عزم بلاده مقاطعة المنتجات الأمريكية الخاصة بقطاع البناء.
هل توتر العلاقات سببه قِسّ؟
الخلاف بين تركيا وأمريكا ليس جديداً، فقد بدأ هذا الخلاف يتصاعد مع محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي حصلت في تركيا منذ سنتين، مروراً بالخلافات حول دعم أمريكا لـ«وحدات الحماية الكردية»، وصولاً للتمرد التركي على مطالبة واشنطن حلفاءها بالتوقف عن شراء النفط الإيراني وتنديدها بالعقوبات المفروضة على إيران. والسبب الجوهري في ذلك هو ميزان القوى الدولي الجديد الذي ترجح كفته لصالح دول صاعدة كروسيا والصين، وبما أن الوضع العام لأية دولة في العالم يتأثر بالوضع الدولي، فقد كان لتركيا نصيب جيد من هذا التأثر، إذ بدأنا نلحظ العديد من «التكويعات» التركية في أكثر من ملف ولا سيّما الملف السوري؛ مشاركة تركيا في أستانا والمباحثات الجارية حالياً بين روسيا وتركيا من أجل إيجاد حل لملف إدلب.
وضمن هذا السياق الذي تتحسن فيه العلاقات التركية بشكل تدريجي مع القوى الصاعدة، تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها منعزلة أكثر، وهذا ما دعاها لاتباع سياسة العقوبات تحت ذرائع عدة «كذريعة القِس أندرسون» في محاولة منها لتطبيق ضغوطات سياسية واقتصادية على حلفائها التقليدين الذين بدأوا بالابتعاد عنها شيئاً فشيئاً، مما يعني: أن هذه السياسات لن تعود بالنفع على الولايات المتحدة الأمريكية بشيء يذكر، لكنها مضطرة للقيام بها من أجل تنظيم تراجعها المضطرد باستمرار.