عزلة أمريكية على نغم التانغو
إن التراجع الأمريكي قد أصبح فعلاً ماضياً، أيّ: تمّ التراجع، وما يجري هو إدارة الخسائر. ولكن من كان يعوّل أحلاماً بغير ذلك، وتعصّب بعكس هذا الأمر، فقد باتت الوقائع تؤلمه، ولم يعد بإمكان أحد أن ينكر هذا التراجع، وهنا على لسان الأمريكيين أنفسهم، سياسيين كانوا أم رجال أعمال.
لنتفق أولاً على أن ترامب ليس هو من يسبب التراجع، بل على العكس، إن أزمة الولايات المتحدة، والأزمة الرأسمالية النهائية ككل، قد تفجّرت منذ أكثر من عشر سنوات، ومنذ ذاك الحين بدأت الظروف الموضوعية تتشكل لسقوط أمريكا عن عرش حاكم العالم، واليوم هذا السقوط والتراجع هو من صَنَع ترامب وهو_ موضوعياً_ من يفرض على ترامب أن يدير سياسة أمريكا الخارجية بشكلها الحالي. ولنبق متنبّهين لسذاجة «الإعلام» الغربي، ومن على شاكلته بما يحاولون ضخّه ضمن معادلة تفضي بأن ترامب مُسبب التراجع، خدمة للتيار الفاشي.
«الولايات المتحدة تقرّب روسيا والصين وإيران، وتعزل نفسها»
بهذا الكلام اختصر رجل الأعمال الأمريكي، جيم روجرز، ألمه قبل قرابة الشهر، فسياسات واشنطن اليوم تركز على اقتصاد أمريكا نفسها داخلياً، وتنأى عن الاستثمارات والاتفاقيات الخارجية لتعزيز اقتصادها الحقيقي، عوضاً عن ريع الدولار دولياً الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، فيقول روجرز حول سياسة واشنطن الخارجية: «في السنة الماضية كان الجميع منفتحاً أكثر فأكثر، أما الآن فأمريكا تغلق على نفسها أكثر فأكثر» الأمر الذي لا يروق لأولئك المستثمرين العابرين للقارات، فكل اتفاقية دولية تنسحب منها أمريكا تنسحب منها الثقة أيضاً، ما ينعكس على رؤوس أموالها الموجودة في الخارج، فيقول أيضاً: «المستثمرون الأمريكيون باتوا يمتلكون فرصاً أقل في الاستثمار بسبب الولايات المتحددة نفسها»، ويتابع في السياق ذاته: «أنا كأمريكي قد مُنعت في العديد من الدول بسبب الأمريكيين أنفسهم». ويبدو مما قاله أيضاً: أنه كان لديه حلمٌ للاستثمار في كوريا الديمقراطية ولكن هزيمة أمريكا هناك وانسحابها تدريجياً يزعجه ليقول متحسّراً: «إنهم بحاجة للصابون، وللكهرباء، لكل شيء، أي: شيء تعمله من الممكن أن يدرّ لك ثروة في كوريا الشمالية». إلّا أنه ولحسن حظّ الكوريين شعباً، فلن يدخل روجرز هناك لتُملأ خزائنه ثروة على حساب إفقار الكوريين أكثر كما كان يتأمّل.
«سياسة ترامب «أمريكا أوّلاً» قد عزلت أمريكا عن قادة دول العالم»
هو أيضاً عنوان لمقالٍ نُشر منذ مدّة على موقع ال ـ«إن بي سي» الإخباري، مهاجمة به ترامب وسياساته بما يخدم مصلحة التيار الفاشي الذي يضعف يوماً تلو الآخر، إلا أنه يقرّ بشكل تام بتراجع واشنطن وعزلتها حقاً، فانسحابها من العديد من الاتفاقات الدولية كاتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ، واتفاق المناخ العالمي، ومؤخراً الاتفاق النووي الإيراني، وغيره يفضي إلى قطع علاقات أمريكا الدولية الاقتصادية والسياسية والنأي بنفسها ولنفسها، ويُذكر في المقال ذاته مديح ترامب لرؤساء الدول الصاعدة روسيا والصين في أثناء انتقاده لأقرب حلفائه كبريطانيا وألمانيا، مُذكراً بمقالهم أيضاً عن تشكيك ترامب باستمرارية التزام أمريكا اتجاه أحد أقدم تحالفاتها «الناتو»... ويتابعون التعبئة على ترامب بشخصه مفرداً: «ربما ولا أيّ رئيس، ولا حتى جورج بوش باحتلاله العراق عام 2003، قد جعل دول العالم تصطفّ ضد سياسات أمريكا الخارجية كسياسة ترامب». إلّا أنهم لا يريدون انطلاقاً من مصالحهم رؤية أن ترامب هو صنيعة التراجع هذا، وما هو إلا مدير العملية بينها وبين العزلة بأقل الخسائر.
عزلة أمريكا تخلّف فراغاً لغيرها
نعم، دول البريكس وعلى رأسها روسيا والصين، لما لديهم من وزنٍ دولي، هم الأسبق على ملء الفراغ هذا، ولديهم من المصالح السياسية الدولية ما يتوافق مع مصالح غالبية دول العالم الطرفية بانفكاكهم من دول المركز الناهبة لهم، وبمشروع مُعاكس لهم، كأوهام روجرز وتيّاره باحتلال دول العالم اقتصادياً، وقد قال ريتشارد هاس، المستشار في الخارجية الأمريكية: «ترامب قد جعل العالم أأمن لتوسّع الصين»، مع تحفّظنا على مفردة «توسّع» بما توحي له من «استعمار» على الهيئة الأمريكية، إلّا أن لهذه الجملة من مستشار في العلاقات الخارجية دلالة بديهة بين سطورها، هي أمنية لدى هاس بأن تجري الأمور عكس ذلك؛ أن يُحرق العالم، وليدخل حرباً عالمية ثالثة وتبقى أمريكا حاكمة الأرض حتى النفس الأخير، عوضاً عن «جعل العالم أأمن»، ولكن أيضاً لحسن الحظ، فهي تعبّر عن يأس هذا المستشار وضعف تياره الفاشي من أيّ فعلٍ ضمن «المدى المجدي» والاكتفاء بالأمنيات.
وهنا عبارة ذكرت سابقاً في مجلة «الإيكونومست» عن تراجع وعزلة أمريكا وصعود دول أخرى بينها الصين تحديداً: «في رقصة القوى العظمى، شي (الرئيس الصيني) هو من يفعل التانغو، وترامب يطقطق بقدميه على ألحان الموسيقى فقط». وأخيراً، هل لا زال هنالك صُمٌّ عن سماع هذه الموسيقى بكل ضجيجها؟