عالم يهتز على وقع التوازنات الجديدة
لماذا لا تهدأ نشرات الأخبار اليوم؟ ولماذا يأخذ المشهد العالمي سمة التوتر المتزايد؟ نعم، من الممكن إيجاد إجابة واحدة عن تلك الأسئلة، ومن الممكن وضع عنوان عريض لكل النزاعات والتوترات العربية والدولية في هذه المرحلة، دون الخوض في مسببات كل حالة على حدة: إنه التبدل الجاري لموازين القوى العالمية.
لا يكاد أحد الملفات يقترب من الحل والتسوية، حتى نجد »قوى خفية» تضع العصي في العجلات لتعرقل الحل، بينما و»للصدفة البحتة» تشتعل جبهات أخرى في أماكن أخرى من العالم.
في الحقيقة، لم يعد يخفى على أحدٍ، أن توازناً دولياً جديداً هو قيد التبلور اليوم، وانطلاقاً من هذه الحقيقة، التي لم يعد لأحد أن ينكرها أيضاً، يمكن بالقليل من الفطنة، تحديد هوية تلك »القوى الخفية»، فمن كان مهيمناً خلال الحقبة الماضية، أي: بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لن يسلّم مواقعه بسلاسة، وهي تحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، مركز المركز الرأسمالي، ووليّة مشروع الفوضى، بالإضافة إلى أذرعها وأدواتها في كل مكان.
حكم الشعوب
إن أكثر ما تخشاه المنظومة الرأسمالية، بما تشمله من حكومات وشركات وأصحاب رؤوس أموال، هو: استلام الشعوب لزمام الحكم القائم على مؤسسات قوية ذات سيادة، ومع تصاعد الحركات الاحتجاجية حول العالم، تزداد تلك المنظومة شراسةً وقمعاً. حيث إن بقاءها مشروط باستمرار نهبها لشعوب الدول الطرفية في تلك المنظومة، الأمر الذي لا يضمنه سوى حكومات فاسدة تحكم تلك الشعوب.
وهنا، تجدر الإشارة إلى الأزمة السورية، حيث كانت واحدة من تلك الملفات التي استطاع التوازن الدولي الجديد في النهاية إقرار حصرية مسار الحل السياسي لها، من خلال الإجماع على القرار 2254، الذي يضمن تغييراً حقيقياً، كمرجعية للحل، لذلك نجد من يسعى لعرقلته، خوفاً من اعتماده كنموذجٍ لحل الأزمات ينسحب على ملفات أخرى في المنطقة والعالم، كذلك الأمر بالنسبة للإجماع الدولي حول الاتفاق النووي الإيراني، الذي تحاول الولايات المتحدة مهاجمته والتراجع عنه، خوفاً من انسحابه كنموذجٍ لحل الأزمة في شبه الجزيرة الكورية.
ربط آسيا بأوروبا
أيضاً، من أهم التهديدات التي تطال الهيمنة الأمريكية عالمياً اليوم، هي: المشاريع التي تعمل عليه الدول الصاعدة، وتحديداً روسيا والصين، والتي من شأنها ربط آسيا وإفريقيا بأوروبا، وهو ما يعني عملياً: عزل الولايات المتحدة عن نطاق التأثير العالمي، وتشمل تلك المشاريع: »خط السيل الشمالي 2» لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، و »خط السيل التركي» لنقل الغاز الروسي إلى تركيا، ومشروع »طريق واحد، حزام واحد» الصيني لإحياء »طريق الحرير» القديم وتوسيعه، و»الاتحاد الاقتصادي الأوراسي»، وغيرها من المشاريع القائمة على التعاون المتبادل والتنمية الحقيقية. تلك المشاريع التي لم تعد واشنطن قادرة على منعها، لذلك فهي تحاول عرقلتها بما تبقى لها من قوة، من خلال إشغال روسيا والصين، وإشعال بؤر التوتر على تخومهما من أوكرانيا إلى أفغانستان.
من ناحية أخرى، إن محاولات استبعاد الدولار كعملة عالمية تعني: فقدان الولايات المتحدة لأهم أدواتها في الهيمنة، وهو ما يتم العمل عليه بخطوات جديةً، كان أبرزها: فتح الصين، إحدى أكبر الدول المستوردة للطاقة في العالم، الباب للعقود الآجلة للنفط الخام بسعر اليوان الصيني، والذي سيكون قابلاً للتحويل إلى الذهب، بالإضافة إلى اتخاذ دولٍ أخرى إجراءات على هذا الصعيد، مثل: روسيا وفنزويلا وإيران وتركيا.
التفاؤل التاريخي
سورية، فلسطين، مصر، ليبيا، اليمن، شبه الجزيرة الكورية، وبورما جميعها دولٌ تهتز اليوم بفعل تبدل موازين القوى العالمي، ولمنطقتنا، منطقة شرق المتوسط، النصيب الأكبر، فهي تقع في قلب العالم، ولا يمكن لمشاريع العالم الجديد أن تمضي قدماً دون أن تمر منها.
تفقد الولايات المتحدة هيمنتها شيئاَ فشيئاَ، ويظهر الانقسام واضحاً داخل إدارتها، بين تيارين أحدهما: يصرّ على التمسك بالمنطق الأمريكي التقليدي القائم على النهب والفوضى، وتيار آخر: لا يمانع الاتجاه ذاك، ولكنه يخشى أن يزيد التراجع الأمريكي تراجعاً، لكن في المحصلة فإن واشنطن تنحو نحو المزيد من الانكفاء والتراجع، رغم الحرص على التظاهر بالقوة، مما يعني: أن مشروعها بخلق الفوضى حول العالم، هو قيد التلاشي أيضاً، وهي تدرك ذلك، وعلينا أن ندرك ذلك أيضاً، فنحن نمر اليوم في منعطف تاريخي على طريق العالم الجديد، والأفق يعد بعالم أكثر استقراراً وعدلاً، لذلك علينا بالتفاؤل والأمل.