البحث عن الحلقة الضائعة في السياسة المصرية
بالنظر إلى الخطاب الرسمي المصري، غالباً ما يتم تصدير الانطباعات العامة، عن مواقف مصر الإقليمية والدولية، بطريقة متوازنة تبعدها عن شبهة الاندماج في القطبية المتصارعة اليوم، هذا الأمر من حيث الشكل، لكن في مضمون السلوك، يمكن تمييز التوجهات المصرية الرئيسة والثانوية بشكل أدق، تبعاً لسلسة أحداث ومواقف تلت إزاحة الإخوان المسلمين عن السلطة، وإمساك جهاز الدولة والجيش لزمام السلطة في البلاد..
فادي خضر
قرابة ثلاث سنوات مضت على الرؤية السياسية الجديدة في مصر، مقارنة بفترتي حكم مبارك ومرسي، على صعيد العلاقات الإقليمية والدولية، هذه الرؤية سِمتها الاستفادة قدر المستطاع من امتياز مصر كدولة أساسية ومحورية في المنطقة، وقادرة على التأثير على أي ملف من ملفاتها، ومن نفوذها الإقليمي بما يخدم مصلحتها كدولة ...
تحالفات متباينة
لكن موضوع البحث هنا، هو: أرجحية طبيعة أحد التحالفات لدى القيادة المصرية على غيرها، في هذا الصدد يمكن النظر إلى الوجود المصري ضمن «التحالف العربي»، الذي يعمل في اليمن، فمصر بموقفها السياسي، أو بشكل أدق البروتوكولي، هي أقل الأطراف اندماجاً في الأزمة اليمنية، وتعتبر مشاركتها ضمن هذا التحالف شكلية، ومن يطالع الصحف المصرية، يدرك حقيقة «النأي بالنفس» المصري عن المشاركة في الحرب على اليمن إعلامياً أو سياسياً، رغم التأكيد المصري الدائم على متانة العلاقات السعودية- المصرية، والحديث عن المصير المشترك ...الخ ، وبالطريقة نفسها يمكن النظر إلى مشاركة مصر في «التحالف الإسلامي»، الذي دعت إليه السعودية.
وتجدر الإشارة إلى أن مواقف مصر والسعودية من الأزمة السورية ليست منسّقة تماماً، بغض النظر عن تقاربها أو تباعدها على طول هذه الأزمة، فهي من حيث المضمون، لا تعطي إيحاء بعمل «الحلفاء»، وكذلك فيما يخص القضية الفلسطينية التي لا يعمل فيها الطرفان بالسياق نفسه، ويكون هذا التنسيق إن وجد في أحسن أحواله، تنسيقاً جزئياً في الغالب، وكذلك الوضع بالنسبة للصدام السعودي- الإيراني الذي تتفادى مصر في أغلب المناسبات التطرق إليه بشكل منفرد عبر بيان أو تصريح أحد مسؤوليها.
وكذلك يمكن النظر إلى التعاطي المصري مع الولايات المتحدة، الذي يمكن وصفه بالتعاطي الحذر، آخذين بعين الاعتبار الهيمنة الأمريكية المركّزة على مصر بعد اتفاقية «كامب ديفيد». هنا تحاول القاهرة تظهير صورة العلاقة المتينة مع واشنطن وتصديرها بأحسن حال، بغض النظر عن مستوى التعاون الحقيقي والفاعل بين البلدين سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، هذا التعاون الذي هو في الحقيقة في تضاؤل يتناسب مع مقدار الحفاوة الرسمية المصرية عند كل زيارة لمسؤول أمريكي إلى القاهرة!
ففي الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس إلى مصر، ولقائه بالرئيس عبد الفتاح السيسي، يؤكد المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، بسام راضي، قوة العلاقات المصرية- الأمريكية، وما تتميز به من طابع استراتيجي، مشيراً إلى الاهتمام بتعزيز أوجه التعاون بين الجانبين، وخاصة على الصعيد العسكري، بما يسهم في تحقيق المصالح المشتركة للبلدين، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب.
لكن على الأرض، وبعد أشهر من العمليات الإرهابية الكبيرة في سيناء، لم تعمل العلاقات «الاستراتيجية» المصرية- الأمريكية، كما يؤكدها الطرفان، على التصدي للهجمات الكبرى هناك، أو بالحد الأدنى إعلان التعاون الاستخباراتي الفاعل لمعرفة مصادر تمويل الجماعات الإرهابية وارتباطاتها الإقليمية والدولية، لمساعدة مصر في إنهاء وجود تلك التنظيمات على أراضيها. وفي السياق ذاته تجدر الإِشارة إلى حجب الإدارة الأمريكية لمبلغ 96 مليون دولار من المساعدات الأمريكية لمصر، وعن تأخر 195 مليون دولار أخرى، ويمكن القول هنا: إن مصر تجاهلت هذا الأمر، أو بالأحرى باتت تتحسب للمرحلة التي ستقطع فيها واشنطن مساعداتها عن القاهرة، وعليه فهي تتعامل مع هذا الملف بهدوء ودون إعطاء مواقف ذات حدة مبالغ بها.
عن النوايا والوقائع
الملاحظ في الحراك المصري إقليمياً ودولياً، هو: استلام زمام المبادرة في ريادة تحالفات أكثر واقعية من تحالفاتها التاريخية، المبنية على أسس التجاور أو وجود مشتركات ذات طابع قومي ...الخ، والتي تراها القاهرة واعدة ومهمة في مستقبل المنطقة، الحديث هنا عن إيجاد فضاء سياسي شرق المتوسط، بدأ بإنجاز التنسيق الثلاثي مع اليونان وقبرص، حول ترسيم الحدود البحرية، كخطوة متعلقة باستثمارات الغاز الهائلة والممكنة في هذه المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو السلوك المصري، فيما يخص الملف السوري، خارجاً عن سياق أي تحالف مع الغرب، أو دول الخليج، وأقرب موضوعياً إلى الموقف الروسي، وهو ما لا تساوم عليه مصر، وأثبتت ذلك بالتجربة العملية في صدامها مع الرياض حول أحد قرارات مجلس الأمن المتعلقة بهذا الملف، وتحملت القاهرة تبعات موقفها بحزم، بتصديها لمحاولات الضغط السعودي اقتصادياً، والتي أثرت حينها فعلاً على سعر صرف الجنيه المصري وفتحت الباب لتعويمه كأمر واقع.
وفي السياق نفسه، تصوغ القاهرة رؤيتها السياسية فيما يخص الملف الليبي بالشراكة مع الجزائر وتونس، وبالتنسيق دولياً مع الطرف الروسي بشكل ثابت، ودرجة أقل مع الأطراف الغربية.
الحلقة الضائعة
مما سبق، يمكن فهم السلوك «السياسي» لمصر، بناءً على الوقائع، بأنه غير ملتصق بالمواقف الغربية، ولكن هل هذا العمل السياسي والديبلوماسي كافٍ لوضع مصر في مأمن من الصدمات الاقتصادية والأمنية المتتالية؟
المقلق في مصر هو: تحول الأحداث الأمنية في سيناء والحدود الغربية إلى ساحات معارك عسكرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا الأمر لا يمكن حدوثه دون تمويل وإدارة وتغطية استخباراتية من أطراف دولية، أي: إن الإرهاب في مصر محدد الأهداف بإنهاك مصر اقتصادياً وعسكرياً، وتحويل أجزاء من أراضيها إلى الشكل الليبي، ومن هنا يأتي السؤال حول كفاية العمل السياسي والديبلوماسي المصري؟
الحقيقة أن التوجهات المصرية بالمعنى الاقتصادي ما تزال مرهونة بما جاءت به اتفاقية كامب ديفيد نصاً وسلوكاً، وحتى عسكرياً، رغم إطلاق العنان للتعاون المصري- الروسي في المجالات العسكرية والطاقة النووية، لكن صفقات السلاح المصرية الأخيرة مع فرنسا، واحتمال عودة الدعم العسكري السنوي من الولايات المتحدة الأمريكية، يعني: أن القاهرة ما زالت محكومة بنمط محدد من العلاقات الاقتصادية مع الغرب، لا يسمح لها باستكمال حلقات العمل السياسي، المهم حقاً، لكن غير الكافي لتخطي مصر مرحلة الخطر المحدق بها حتى اليوم.