لبنان في عين (العاصفة الإقليمية)
تعتبر استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، ثالث أكبر حدث في المنطقة، في غضون عدة أيام، بعد حدثين كبيرين سبقاه، يتمثّلان: بقرب نهاية «داعش» في سورية والعراق، والتغيرات السياسية الكبرى التي تعصف في المملكة العربية السعودية، وفيما يلي دعوة للتفكير بظروف استقالة الحريري، من بوابة التغيرات الإقليمية السريعة أولاً، والوضع اللبناني الداخلي ثانياً ...
يمكن بالتوصيف الأولي، تشبيه الاستقالة بالهزة الارتدادية، أي الهزة التي تقع في محيط بؤرة اهتزاز أكبر منها، والمعبّر عنها بالوضع السياسي المستجد في السعودية، قبل ساعات على استقالة الحريري من الرياض، لكن هذا كله ضمن حسابات أمريكية_ سعودية منظمة الأهداف في المراحل اللاحقة ...
تنسيق أمريكي_ سعودي
تزكية محمد بن سلمان أمريكياً لولاية العهد، حملت معها أدواراً محددةً للسعودية، على رأسها: مجابهة الوزن الإيراني في المنطقة، ومحاولة تعديل موازين القوى قدر الإمكان، وهنا تبدو لبنان حلقة ضعيفة، وسهلة الاختراق بالمعنى السياسي، من بوابة تيار «المستقبل»، الذي اختار الوصاية السعودية المطلقة على قراره السياسي، والنتيجة كانت استقالة الحريري بظهور إعلامي، لا يرتضيه حلفاؤه حتى خصومه السياسيون داخلياً.
وهنا يمكن قراءة الأهداف الأمريكية_ السعودية ضمن حدود متفاوتة، أهمها التصعيد مع إيران بالتكامل مع ما يجري العمل عليه اليوم في اليمن والعراق، بالإضافة إلى إحداث صدام سياسي داخلي في لبنان، ينتج عنه عرقلة في اتخاذ أية إجراءات توافقية بين القوى السياسية المختلفة، هذه الإجراءات التي بدأت بالظهور بعد انتخاب الرئيس ميشال عون، واستلام الحريري لرئاسة الحكومة اللبنانية.
تلك التوافقات الحكومية، وإن كانت هشة وضيقة التأثير، لكنها ضمن ظروف المنطقة كانت بمثابة إنجازٍ أساسه تحييد الداخل اللبناني نسبياً، عن الاندماج الكلي في معارك يمكن وصفها بمعارك كسر العظم دولياً في سورية والعراق، وفي حال غيابها، سينتج وضع متوتر ومنفلت سياسياً إلى أبعد حد ممكن، يسمح في مرحلة معينة بنقل الصراع السياسي إلى الشارع _ وهو ما سمعناه همساً في بعض وسائل الإعلام إبان استقالة الحريري_ حيث لا يضمن أي طرف سياسي لبناني النتائج المتوقعة لهكذا خيار، خاضع لعمليات الفعل ورد الفعل المتبادلة، والتي قد تخرج عن سيطرة البنية السياسية اللبنانية بأكملها، وتصبح عرضة للاستثمار في مجمل المعركة القائمة إقليمياً.
حدود الاشتباك الداخلي
إن محاولات إحراق لبنان داخلياً، ليست بالجديدة، وهي مفهومة ضمن منطق السياسات الأمريكية في المنطقة، لكن بعيداً عن الإرادات الأمريكية، وبالعودة إلى حادثة استقالة الحريري، يمكن تقييم التأثير السعودي، وهوامش الحركة في الداخل اللبناني، بناءً على وزن السعودية الإقليمي. بمعنى آخر فإن وزن القوى المحسوبة على السعودية في داخل لبنان، ومنها تيار «المستقبل»، لم تستطع في المرحلة الماضية منع وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، ورضخت السعودية إلى خيار التهدئة الموصوف باستلام الحريري لرئاسة الحكومة في المرحلة الماضية.
وبالتالي، فإن حدود التأثير الممكنة أمريكياً_ سعودياً، تقلّل من احتمالات انجرار لبنان إلى صراع داخلي كبير، وربما تطالعنا ردود الفعل الأولية على الاستقالة داخل لبنان، بقليل من الإشارات التي تعزّز فرضية يمكن الاصطلاح عليها، بحالة «الانضباط في الفوضى السياسية»، فمعظم القوى السياسية رفضت التصعيد في الخطاب، واعتبرت في مضامين مواقفها السياسية، وبدرجات متفاوتة: أن بيان استقالة الحريري من الرياض، شكلاً ومضموناً لا يعبر عن إرادة ذاتية لرئيس تيار المستقبل، وأنه ضحية التغيرات العاصفة في السعودية، وهو ما تعزز بالأخبار الواردة عن وضعه تحت الإقامة الجبرية، واتهامه سعودياً بالفساد ..الخ.
من جهة أخرى، تأتي هذه الأزمة السياسية في مرحلة يشهد فيها الشارع اللبناني تغيرات موضوعية في علاقته مع القوى السياسية اللبنانية التقليدية، نتيجة التجربة المريرة التي أوصلته اليوم إلى حالة غير مسبوقة من الإفقار والتهميش، والنقمة على منظومة التحاصص الطائفي بأكملها، هذا العامل الاجتماعي يؤخذ بعين الاعتبار في تداعيات الأزمة الحالية، وبحذر شديد، لأن الظواهر الاجتماعية القاسية نفسها في لبنان كانت موجودة في سورية والعراق قبل دخولهما في دوامة الفوضى الحالية.
بوابة الاختراق من لبنان
باستبعاد مرحلي لخيار انتقال الفوضى من الجوار اللبناني إلى الداخل، وفق المنطق الأمريكي، تمتثل خيارات أخرى خطيرة بدأت بالظهور تزامناً مع حادثة الاستقالة المذكورة، والحديث هنا يدور عن «فراغ دستوري» مستمر، ومعزّز بتضييق مالي محتمل، قد يشابه ما ذهبت إليه السعودية في تعاطيها مع قطر، بمؤازرة الإمارات والبحرين، ففي حال اتخاذ إجراءات التضييق السعودية، ستتأثر صادرات لبنان الصناعية إلى الخليج والتي تقدر بـ60% من حجم الإنتاج الصناعي الكلي، والصادرات الزراعية البالغة 85% من حجم الإنتاج الزراعي، و43% من تحويلات اللبنانيين في الخارج التي تتعدى 7 مليارات دولار سنوياً.
هذه الإجراءات المتوقعة، من شأنها تعزيز حالة الاضطراب الداخلي في لبنان، وإحداث انهيارات مالية واقتصادية، قد يتم تحميل مسؤوليتها إلى «حزب الله» بهدف زيادة الضغط على إيران، وستمتد تأثيراتها إلى أبعد من ذلك، لتعرقل عملية «إعادة الإعمار» في سورية، باعتبار أن لبنان هو النافذة الوحيدة الآن، الأمر الذي تسعى إليه، على ما يبدو، القوى كلها التي تدرك خروجها من سورية خلال المرحلة القادمة، دون أية امتيازات، وتحديداً في مشاريع إعادة الإعمار، وهي: دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشكل أساس، حتى أن توقيت استقالة الحريري، يعني ضمناً توقف البحث الحكومي في ملف موازنة العام 2018، والتي كان من المفترض أن تأخذ بعين الاعتبار تجهيز البنية التحتية والمصرفية، للمساهمة في عملية إعادة إعمار سورية.
هذا الاستهداف للاستقرار النسبي، السياسي وبالتالي الاقتصادي_ الاجتماعي اللبناني، يبدو ممكناً بالنظر إلى كم الاختراقات الكبير في بنيته السياسية_ الطائفية، دون أدنى حمائية ذاتية، وبالتالي، فإن المرحلة المقبلة ستشهد صراعاً إقليماً يشتد عوده في لبنان، لكن على الأرجح ضمن حدود أدنى من المطلوب أمريكياً، نتيجة محصلة موازين القوى في المنطقة، لكن ما يمكن التنبؤ به في المرحلة القادمة، هو: أن خروج سورية من أزمتها وفق نموذج وطني سيادي بمعنى الكلمة، سيمتد أثره إلى الأجواء الإقليمية بما فيها لبنان، من حيث التغيرات السياسية الكبرى المتلائمة مع معايير العالم الجديد، الأمر الذي من شأنه تذليل العقبات أمام لبنان دولةً وشعباً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 836