هل يمكن اعتقال الثورة التكنولوجية؟
يمثل موضوع التطور التكنولوجي واحداً من الأساسات المنطقية للحديث عن مقدار قوة الدول، ومدى قدرتها على استخدام هوامش المناورة في المنافسة الجيوسياسية والاستراتيجية القائمة في العالم. حول هذا الموضوع، نقدم فيما يلي قراءة في بحث «الدول وقوتها الوطنية»، للكاتب مارسيلو غولو.
كما كان المركز الأول للثورة الصناعية هو إنجلترا، يعتبر البعض أن المركز البارز للثورة التكنولوجية هو الولايات المتحدة الأمريكية. وكما بدأت الاكتشافات البحرية (التي تعتبر بداية العولمة الأولى) بدافع من الحاجة الأوروبية للتنقيب حول العالم، فإن الثورة التكنولوجية التي أطلقت موجة العولمة الثالثة بدأت في عقد الستينات، بسبب الحاجة الأمريكية للتغلب على الاتحاد السوفييتي في السباق لغزو الفضاء، وأصبحت في عقد الثمانينيات تهدف إلى إزالة «التهديد الناجم عن التوسع السوفييتي»، من خلال السياسة المعروفة باسم «حرب النجوم».
الصراع يزيد وهم الاحتكار
أن تكون أول من وطأ سطح القمر (وإن إعلامياً فقط) وبصرف النظر عن الإنجاز العلمي، هو هدف استراتيجي من واشنطن لإظهار تفوقها كقوة، ولإبراز أولوية النظام الذي تمتلكه. وقد أدى البحث الذي تم تمويله ورعايته من قبل الدولة للإيحاء بالفوز في سباق الفضاء، إلى قفزة تكنولوجية ووضع الشركات الأمريكية في طليعة التكنولوجيا، ومنحها ميزة تنافسية غير عادية.
وفي الوقت نفسه، تم تعديل الحياة اليومية على كوكب الأرض. حيث بدأت الولايات المتحدة باستخدام الليزر، والألياف البصرية، والمسح الضوئي، وفرن الميكروويف، وحتى الأطعمة المجمدة. وقد وضعت «ناسا» تقنيات لتجميد وتقليل حجم الأطعمة، كي يستطيع رواد الفضاء أخذ طعامهم معهم في حاويات صغيرة، وليتمكنوا من إعدادها بسهولة.
ونتيجة لأبحاث الفضاء التي رعتها ومولتها الاحتكارات، تمكنت الولايات المتحدة من تطوير أجهزة غسيل الكلى التي تنقي الدم، والتقنيات التي تستخدم في أجهزة الرنين المغناطيسي، والمسح الضوئي الحاسوبي لإجراء تشخيص موثوق به، والكاميرات التلفزيونية المصغرة، التي يضعها الجراحون على رؤوسهم ليستطيع الطلاب مراقبة العملية التي يقوم بها الجراح، إضافة إلى الأسرة الخاصة بالمرضى الذين يعانون من الحروق وحتى البطانيات الحرارية التي تستخدم في المستشفيات . وبرعاية الدولة الأمريكية، استطاع الباحثون في مجال البصريات من تطوير أبحاثهم التي سمحت بتناقل البيانات بين المراكز، والتي تستخدم اليوم في نقل المعلومات المالية بين المصارف إضافة إلى نقل المعلومات من وإلى أي مكان في العالم.
الإنفاق على الاحتكار
كانت الثورة التكنولوجية التي أطلقت العنان للعولمة الثالثة نتيجة مباشرة للحرب الباردة، وللدعم الذي قدمته الدولة لجميع القطاعات الاستراتيجية التي تدعم الاقتصاد الأمريكي بهدف أن تكون الولايات المتحدة قادرة على التغلب على التحدي السوفيتي. وقد استخدمت الولايات المتحدة الدعم العسكري الفضائي كي تستطيع أن تسيطر على الاقتصاد بعد الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي كانت فيه تقدم المواعظ عن مزايا «عدم التدخل».
ومن خلال المعونات السرية التي كانت قدمتها الاحتكارات المالية تحت عنوان الإنفاق الدفاعي (الدعم العسكري الفضائي) حصلت شركات معينة، مثل بوينغ (Boeing) لصناعة الطائرات، على ميزة تكنولوجية لا يمكن لمنافسيها في باقي أنحاء العالم أن يحصلوا عليها.
تعد شركة بوينغ مثالاً نموذجياً يوضح معنى تدخل الدولة في الاقتصاد بدعم بعض القطاعات الاستراتيجية للصناعة: قبل الحرب العالمية الثانية، لم يكن لدى شركة بوينغ أية أرباح. وقد نمت خلال الحرب، مع زيادة كبيرة في الاستثمارات، وقد جاء أكثر من 90% من هذه الاستثمارات من الحكومة الاتحادية. وارتفعت الأرباح أيضاً عندما زادت بوينغ صافي قيمتها أكثر من خمس مرات. وقال فرانك كوفسكي في دراسة عن المراحل الأولى لما بعد الحرب في نظام البنتاغون، إن الرصيد المالي الهائل للبنتاغون في السنوات التالية كان يستند أيضاً إلى سخاء المساهم المالي، مما سمح لأصحاب شركات الطيران بجني أرباح هائلة بالحد الأدنى من الاستثمارات.
ومع ذلك، وكما أشار نوام تشومسكي، لم تكن بوينغ حالة معزولة: منذ الحرب العالمية الثانية، تم استخدام نظام البنتاغون - بما في ذلك ناسا ووزارة الطاقة - كآلية مثالية لتوجيه الإعانات العامة إلى قطاعات الصناعة المتقدمة عن طريق الإنفاق العسكري، وإدارة ريغان أدت لزيادة نسبة الدولة في الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من 35% حتى عام 1983. وكانت حرب النجوم (التي اقترحها ريغان) إعانة سرية للتكنولوجيا المتقدمة. كما دعم البنتاغون، في ظل إدارة ريغان، تطوير أجهزة الكمبيوتر المتقدمة، لتصبح مفتاحاً للقوة في الأسواق كما وصفتها مجلة العلوم ولتبشر بولادة صناعة جديدة تنطلق من المختبرات التكنولوجية الصناعية مما ساعد على إنشاء العديد من الشركات المصنعة لأجهزة الكمبيوتر المتطورة.
2017: الوقت انتهى
أية حماقة تلك التي ارتكبتها الشركات الكبرى الاحتكارية؟ من خلال عملها على مواجهة «العدو» الاستراتيجي، ومن خلال مسيرة التطوير التكنولوجي التي سارت فيها هذا الاحتكارات، كان الاعتقاد السائد هو أن الإنجازات المحققة سوف تبقى «أمريكية» وسوف تبقى بياناتها مخفية في أدراج القوى النافذة في واشنطن. لكن ما الذي حدث؟ عكس ذلك تماماً.
الثورة التكنولوجية التي كانت تتنطح الولايات المتحدة للقول بأنها السبب في خلقها، قد تحولت سلاحاً ضد أمريكا نفسها. وليس ضد أمريكا فحسب، بل ضد الاحتكارات المالية وفكرة الاحتكار بشكل عام. لقد قام علماء البيانات بتوجيه إنذار منذ زمن بعيد لكننا لم نسمعه. حين قالوا لنا في عام 2000 أنه وخلال 20 عاماً ستفقد الشركات كلها والدول القدرة على حماية بياناتها بشكلٍ كامل. وها نحن ذا، وصلنا إلى هذه الحقبة قبل ثلاث سنوات من الموعد المحدد.
جيش المبرمجين
يرى الجمهور المتابع: أن الحديث عن كسر احتكار البيانات هو ضرب من الخيال. لأنهم يرون أن ذلك بعيدٌ بعض الشيء، لكن الحقيقة تقول خلاف ذلك. في عالم اليوم، لا يوجد معلومة لا يمكن اختراقها، لكن السؤال: كم يكلف ذلك جهداً وأموالاً؟
إذا أراد بعض المبرمجين الذين يعملون اليوم بشكلٍ فردي أو جماعي أن يحصلوا على المعلومات ذات الأهمية القصوى، فإنهم قد يفشلون في ذلك، لأن قدرتهم على تحمل التكاليف هي في الحدود الدنيا غالباً. لكن لنتخيل الأمر على الشكل التالي: تجيِّش الدولة أكبر مجموعة ممكنة من المبرمجين، تقدم لهم الأماكن الجيدة للإنتاج، وتضع لهم خطة عمل يجري تحديدها على أساس الأولويات الوطنية للدولة. بالجهد الجماعي والأموال الضرورية، سيكون باستطاعة جيش المبرمجين أن يحصل على المعلومة التي تريدها الدولة. أما ما يثير الدهشة في هذا الموضوع، هو أن ما سبق ذكره هو استثمار ناجح، لماذا؟ لأن العوائد المالية الآتية من اختراق البيانات ستكون في أغلب الأحيان أكثر بكثير من التكاليف التي استحقها جيش المبرمجين. بهذا الجيش، يمكن أن تحصل على معلومات إنتاج الدبابيس، جنباً إلى جنب مع بيانات التقنيات العسكرية الضخمة..!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 817