تركيا.. ضد تركيا؟!

تركيا.. ضد تركيا؟!

لا تستطيع الولايات المتحدة المتراجعة أن تحمي تحالفاتها الإقليمية في منطقتنا بل وتبدو وكأنها تستغني عن هذه التحالفات المتشكلة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، والمتعمقة خلال الحرب الباردة، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لتصل بها الأمور إلى مواجهة سياسية مباشرة مع حلفائها القدماء، وأبرزهم تركيا... 

ولكن مع ذلك لا تبدي تركيا مرونة في الانتقال إلى الصف الآخر، أي إلى صف القوى الصاعدة التي تواجه المشروع الأمريكي لنقل الحرب والتوتر إلى العمق الأسيوي، والتي تقطع عليها الطريق في «الشرق الأوسط» عبر الحلول السياسية وإطفاء الحرائق. رغم أن المنطق يقول: إن من مصلحة تركيا ككيان ودولة الانخراط في المشروع الجديد، المواجه لمشروع الفوضى الأمريكي الذي يستهدف حتى تركيا ذاتها، حيث أن الانتقال التام يصب في مصلحة الشعب التركي، ويخدم مستقبل التقدم والاستقرار والتنمية في تركيا، ولكن من قال أن مصلحة الأتراك،  وعموم شعوب ودول المنطقة هي التي تسيّر القوى السياسية الحاكمة في هذه الدول؟!

أفول «الصحبة القديمة»

انتعشت تركيا اقتصادياً بشكل نوعي خلال العقد الأول من القرن العشرين، عندما حطت رؤوس الأموال الغربية وزناً هاماً في الاقتصاد التركي، ليتدفق إلى تركيا خلال عشر سنوات بين 2004-2014 أكثر من 150 مليار دولار، وهذا «غيض من فيض» إن صح التعبير، فتركيا هي حليف عسكري وسياسي عميق للغرب عموماً، وللولايات المتحدة تحديداً، ولا أبلغ في الدلالة على ذلك من وزن الجيش التركي في الناتو، وهو الجيش الأقوى بعد الولايات المتحدة، وعماده العسكري في منطقتنا، وأخيراً وليس آخراً الوزن النوعي للتجارة السوداء العالمية في تركيا، حيث هي واحد من أهم خطوط العبور لتجارة المخدرات والسلاح من أواسط آسيا إلى أوروبا. 

ولكن هذه «الصحبة القديمة» مرهونة بمشروع الأمريكان، والذي لم يعد يريد تركيا كما هي اليوم، فما فائدة القواعد المتقدمة للناتو والجيش التركي الكبير، إن كانت الحرب الواسعة قد طويت صفحاتها بشكل كلي تقريباً نتيجة استحالة ضمان النصر فيها، ونتيجة الأثر السياسي السلبي العميق للخسارة في مستوياتها على القوة العالمية الأمريكية المتراجعة؟! بل أبعد من هذا، ما فائدة تركيا كدولة موحدة وقوية، إذا لم تكن جاهزة للاحتراق في اللحظة المناسبة وفي خدمة مشروع الفوضى؟!

تناقضات المرتبطين بالغرب

القوى السياسية سواء الحاكمة أو المهيمنة في تركيا تعلم بأن الولايات المتحدة تستهدف استقرار بلادهم ووحدتها، ولا أبلغ في الدلالة على ذلك من الانقلاب العسكري التركي، ولكن في الوقت ذاته لا تقل مساهمة هذه القوى في «دق إسفين» التوتر في قلب المجتمع التركي، أي في تخديم المشروع الأمريكي، وتحديداً فيما يخص القضية الكردية في تركيا، التي تمس خمس سكان تركيا، بالإضافة إلى مجموع إجراءات ما بعد الانقلاب، وصولاً إلى التعديلات الدستورية التي ينقسم المجتمع التركي مناصفة بشأنها.

ولكن بعض قوى البرجوازية التركية، والتي تجد نفسها اليوم في تناقض سياسي عميق مع الأمريكان، هي ذاتها المستفيدة من الارتباط العميق السابق بالمنظومة الغربية اقتصادياً، وعسكرياً، بل وبالربح الإجرامي العالمي، وعلى الرغم من تباينات المصالح فيما بينها، ورؤية بعضها لمجالات ربح ونمو في استقرار المنطقة وفي العلاقات مع الشرق، إلا أن كفة الميزان الداخلي المثقلة بعقود من التوجه غرباً، لا تزال غير قادرة على تحقيق انتقال سريع نحو مصلحة تركيا عموماً، وبعيداً عن المصالح الضيقة للنخب، وتحديداً: إن ثمن هذا قد يكون التخلي عن عقود من الإيديولوجية القومية المتعصبة، ومن «الوعود بالاتحاد الأوروبي»، أي خسائر سياسية لقوى أساسية في الحكم أو المتحالفة معه، مع ما ينجم عن هذا من خسارة شرائح من البرجوازية لسلطتها السياسية، ويفتح الاحتمالات أمام قوى الشعب التركي السياسية الأخرى...

«سُلّم النزول الروسي»

روسيا وعبر منطق الحلول السياسية، تقدم لتركيا «سُلماً للنزول عن الشجرة»، وبوابة لإنجازات سياسية قد تنفع في «ترقيع» فشل الخطاب السياسي المتشدد للقوى السياسية التركية... ويظهر هذا الأمر بوضوح في الأزمة السورية، ومحاولة تحويل تركيا تدريجياً إلى ضامن جدي لوقف إطلاق النار، بعد سنوات من «الدور الفعال» في التدخل العسكري غير المباشر والمباشر في سورية، أي الدور الحيوي في مشروع الفوضى الأمريكي عبر سورية وإلى عموم المنطقة.

وإذا ما كان تقدم الحل السياسي للأزمة السورية بدور إيجابي وتعاوني للقوى الإقليمية، بفعل تقدم وزن الدور الروسي قد أصبح أمراً واقعاً، فلا شيء قد يمنع الحل السياسي للمسألة الكردية في المنطقة، وبدور إقليمي إيجابي، و«سُلّم نزول روسي» أيضاً. إلا أن هذا الملف سيلقى مقاومة أمريكية جدية، كما حدث في المسألة السورية، وسيكون على القوى السياسية التركية الحاكمة أن تستغني عن «أيديولوجيتها القومية المتعصبة»، و«الإسلام الإخواني» وتتحمّل الخسائر السياسية لذلك، و تحافظ على بلدها، وتستعد لمواجهة سياسية من موقع أضعف مع قوى المجتمع التركي السياسية الأخرى. لأن المفاضلة ستكون داخل تركيا بين وحدة البلاد واستقرارها، وبين مكاسب النخبة السياسيةً، وهذه المفاضلة ستكون أسهل عندما تكون الحلول السياسية مطروحة من طرف القوى الصاعدة، وعندما تكون قدرة الأمريكان على تصعيد التوتر أقل، هذه القدرة التي تنخفض مع تعمق الأزمة الأمريكية، سواء بجانبها الاقتصادي العالمي الذي سيضعف القوى الاقتصادية الحليفة للغرب في تركيا، أو بجانبها السياسي عندما تضطر الولايات المتحدة المهددة باستقرارها إلى مواجهة أزماتها الداخلية، والانتقال فعلياً إلى «أميركا أولاً» ما يترتب عليه وضع إمكانيات أقل في «مشاريع الهيمنة العالمية»، وتقليل إمكانيات التأثير على قوى التشدد الديني والقومي في تركيا.  

بين مصر والسعودية

ما ينطبق على تركيا ينطبق على غيرها من القوى الإقليمية، وتحديداً على السعودية ومصر حيث وزن المنظومة الغربية ذو ثقل في الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ورغم التباينات الكبيرة في الظرف السياسي لهذه الدول، إلا أن المعركة فيها ضمن الاتجاهات ذاتها، أي قوى الهيمنة الاقتصادية-السياسية المرتبطة عميقاً بالولايات المتحدة، والتي تجد نفسها في تناقض اليوم مع المصالح الأمريكية، التي لم تعد تتيح لحلفائها «الهِبات والمكاسب» كما في السابق، بل وأصبحت تستهدف استقرار هيمنتهم الداخلية عبر استهداف استقرار دولهم.

وبينما يزيد هذا الظرف من المخاطر الوطنية اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً في هذه الدول، فإنه في الوقت ذاته يضعف هيمنة القوى السياسية الحاكمة ويحلل تدريجياً ارتباطها العضوي بالغرب، ويضعها في مواجهة مع القوى السياسية والمجتمعية داخل بلادها، فإن كانت هذه البلاد هي السعودية التي لا يبدو أفق العمل السياسي فيها مفتوحاً، ولا يبدو حتى لنخبها أفق في التفكك من المنظومة المالية العالمية الغربية، فإن المخاطر ترتفع وتفتح احتمالات الفوضى، بل والانقسام مع تعمق الأزمة الاقتصادية العالمية، أما إن كانت هذه البلاد مصر فإن الأمر مرهون إلى حد بعيد بنضج القوى السياسية المصرية داخل جهاز الدولة وخارجه، لتلقي عن نفسها «عباءة السادات» الغربية التطبيعية الليبرالية، وتستفيد من حركة شعبية حيّة استطاعت أن تهز ميزان القوى الداخلي مرتين وبشدة خلال أقل من 5 سنوات! 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
809