ضمن حربه على «الإرهاب» وقفزه إلى الأمام.. بوش يسعى إلى تشكيل «وزارة أمن» تغطي بلاده.. والعالم !!
يأتي خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش المتلفز إلى الشعب الأمريكي في السادس من الشهر الجاري عن التغييرات المقترحة في هيئة الأمن الوطني الأمريكية ليثير عدة قضايا تتعلق بتوقيت الطرح ومضمونه في سياق محاولة استكمال تثبيت المكانة الأولى بالمطلق للولايات المتحدة واحتكاراتها في الداخل الأمريكي وفي العالم خارجياً على حد سواء.
بوش تحدث عن ضرورة القيام بعملية إعادة تنظيم شاملة لأجهزة الحكومة الأمريكية وتحويل هيئة الأمن الوطني National Security Agency إلى وزارة تتبع الحكومة الأمريكية بهدف «حماية البلاد من أي هجمات محتملة في المستقبل».
واستطرد بوش متحدثاً عن توحيد الوكالات الأمريكية الرئيسية التي ينبغي أن تعمل معاً بصورة وثيقة ومنها: خفر السواحل وحرس الحدود وهيئة الجمارك ومسؤولو إدارة الهجرة وهيئة أمن وسائل النقل والوكالة الاتحادية لإدارة الأزمات.
وفي الوقت الذي تلوح فيه مسبقاً، وبحسب التصريحات الرسمية، موافقة الكونغرس، بأغلبية جمهورية وديمقراطية مشتركة(!!) على الخطة الجديدة، عمد بوش بنبرة تثير التهويل والهلع بهدف التأثير على الرأي العام للحصول على موافقة ضمنية مسبقاً، عمد إلى توضيح مهمة الوزارة الجديدة التي تتمثل كما قال في «وضع تصورات يومية عن التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة» حيث ستتولى وزارة الأمن الوطني إضافة إلى هذه المهمة الرئيسية ثلاث مهام هي وبحسب بوش أيضاً: «مراقبة الحدود لمنع «الإرهابيين» والمتفجرات من دخول البلاد، العمل مع سلطات الولايات والسلطات المحلية لمواجهة أي طوارئ بسرعة وكفاءة، ومن خلال التعاون مع أفضل العلماء العمل على تطوير وسائل تكنولوجية للكشف عن الأسلحة البيولوجية والكيميائية والنووية واكتشاف العقاقير ووسائل العلاج لتوفير أفضل أشكال الحماية للأمريكيين، إلى جانب دراسة معلومات أجهزة الاستخبارات وأجهزة تنفيذ القانون من كل أجهزة الحكومة الأمريكية..»
وينبغي على موظفي الوزارة المرتقبة الاجتماع كل صباح في حين سيكون المحللون مسؤولين عن وضع تصورات يومية لأسوأ الاحتمالات والتخطيط لمواجهتها، علماً بأن هذه الوزارة ستضم 170 ألف موظف وتصل ميزانيتها السنوية المعلنة إلى 37 مليار دولار تأتي من «الإدارات الحكومية التي ستندمج فيها» كما ستضم العديد من أجهزة الاستخبارات التي تتولى جمع المعلومات حالياً بالإضافة إلى مراكز الأبحاث النووية والبيولوجية.
اللافت في الأمر أولاً هو توقيت إعلان بوش، إذ أنه جاء في خضم ورطته الإعلامية والسياسية الحزبية المتعلقة بإيجاد الطريقة المثلى للرد على التقارير التي تتحدث عن معرفته المسبقة عبر أجهزة الاستخبارات الأمريكية باحتمال وقوع أحداث على شاكلة ما جرى في أيلول الماضي في نيويورك وواشنطن قبل وقوعها، وهو ما أدخله مع إدارته بمتاهة عويصة يجري التعتيم عليها بحجة سرية التقارير الاستخباراتية وعمل لجان الكونغرس التي تحقق في الأمر..
وعلى الرغم من ذلك لا تزال الدوريات والصحف الأمريكية والأوربية تنشر المزيد من الأخبار والتقارير التي تؤكد ضلوع بوش بالمعرفة المسبقة بأحداث أيلول ومنها الحديث عن أن الاستخبارات البريطانية حذرت واشنطن من ذلك قبل وقوعه بسنتين.
ويشار هنا إلى أن هذا السيناريو القائم على «العلم بالشيء» يستبعد سيناريوهات أخرى محتملة بقوة وتقوم على مشاركة الإدارة الأمريكية وأجهزة استخباراتها والأجهزة الحليفة، كالموساد الإسرائيلي، بشكل مباشر في عمليات أيلول وذلك استناداً إلى حجم المكاسب التي تجنيها وتحاول توظيفها الولايات المتحدة منذ ذلك التاريخ بهدف إعادة رسم الخارطة الجغرافية السياسية للعالم خدمة لمصالحها مع إعادة رسم خارطة التحالفات الاقليمية والدولية للهدف ذاته، ولاسيما من ناحية تكريس الفصل بين شمال غني متحضر وجنوب فقير همجي ومدان مسبقاً بتهمة الإرهاب تصنيعاً وتصديراً..
كما أن الإعلان الجديد الذي طرحه بوش جاء في سياق تفجر الصراع الداخلي بين أجهزة الحكومة الأمريكية واحتكاراتها جيشاً واستخباراتياً غداة أيلول حول: من يتحمل المسؤولية داخلياً عن أحداثه (كونه لم يكن قادراً على منعها) وبالتالي حول من ينبغي دعمه ومده باليد الطولى(؟!) وهنا ربما وجد بوش الابن التسوية في دعم الطرفين كليهما: الجيش عبر زيادة ميزانيته وعدده وتوسيع رقعة عملياته في الخارج تحديداً من خلال «الحرب المعلنة ضد الإرهاب الدولي»، وأجهزة الاستخبارات عبر دمجها وتغيير استراتيجية عملها لتتوافق علناً مع المهمة/ الحرب الجديدة ذاتها، ولكن لا يتوقع أن تنجح الإدارة الأمريكية في إحداث دمج كلي فعلياً في عمل هذه الأجهزة إذ يسود علاقاتها البينية التنافس والشك والرغبة في الحفاظ على الاستقلالية بحكم ضرورات «سرية العمل» بما يخفي تناقض المصالح بين الاحتكارات الأمريكية المُمَثلة في مجتمع الاستخبارات الأمريكي الذي يضم العديد من الأجهزة.
غير أن الجديد في إعلان بوش الابن أنه يشكل نقلة نوعية إضافية في الحياة الخارجية لأجهزة الاستخبارات الأمريكية واستراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية بالتالي، إذ أنه يكرس أيضاً وأيضاً المشروعية التي بات يتمتع بها عمل هذه الأجهزة منذ ثمانينيات القرن الماضي في عهدي ريغان وبوش الأب، (الذي يشكل انتخابه للرئاسة في 1989 بحد ذاته سابقة أمريكية كونه كان يشغل في عام 1977 منصب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية)، ومن ثم في عهد كلينتون، وذلك بعد أن كان هذا العمل سرياً ومداناً وتخرج لدى تكشّفه المظاهرات الشعبية والطلابية المناهضة في واشنطن ذاتها.
وفي سياق تكتيكات البيت الأبيض العاملة دائماً على خلق صور أعداء وهميين، قد يصبحون حقيقيين في لحظة ما ولسبب ما يتعلق غالباً بتغير لوحة المصالح أو رفع الدعم (القاعدة وبن لادن في أفغانستان) أو من جراء سياسة النهب والتكبر والاستعلاء الأمريكي، يبدو أن شعوب العالم، بمن فيها الشعب الأمريكي ذاته، وهو الذي سيدفع عبر ضرائبه فواتير تمويل المشروع الجديد بما يتجاوز الميزانية المعلنة بكثير، ستكون عرضة لموجة جديدة من السيناريوهات الابتزازية الترويعية الهادفة إلى القفز بأزمات الإدارة الأمريكية واحتكاراتها إلى الأمام، بما يبعد الأمريكيين المهدَدين (بحسب بوش) أو المجهَّلين (بالأحرى) عن إعادة طرح التساؤلات في وجه إداراتهم المتعاقبة: لماذا يكرهنا العالم؟ ولماذا نحن مستهدفون بالإرهاب؟ وما هي الطبيعة الحقيقية للسياسات الأمريكية، بل وما هو موقعها عملياً من مفهوم إرهاب الدولة…؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 177