التظاهرات كانت في استقباله: بوش: «لست موضع ترحيب في أي مكان في العالم!»
خلافاً لرغبات واشنطن القاضية بتقسيم العالم إلى شمال غني يتناغم كلياً تحت الراية الأمريكية في نهب جنوب فقير والتحكم به، وبتقسيمه ضمناً إلى: إما مع البيت الأبيض أو ضده في حربه المعلنة بحسب وصفاته ضد الإرهاب، لا تزال السياسات الأمريكية، ورغم كل الخلو النسبي الكبير في الساحة الرسمية الدولية أمامها وحتى في عواصم هامة من دول الشمال، تعمل على توسيع جبهة المعارضين لها على مستوى الشعوب وقواها الحية وذلك بدليل جديد أضافته التظاهرات التي استقبلت الرئيس الأمريكي جورج بوش في ألمانيا وروسيا وفرنسا ولاحقاً في إيطاليا وإسبانيا.
تظاهرات «محور الخير» كانت تستشيط غضباً في شوارع برلين لتستقبل على طريقتها صاحب مقولة «محور الشر» معبرة عن سخطها أيضاً من حكومتها المنساقة خلف القاطرة الأمريكية.. ففي حين انسحب أحد النواب من جلسة البرلمان الألماني عندما همّ بوش لإبقاء كلمته بعدما رفع بعض النواب لافتات تندد بالسياسات العسكرية الأمريكية والموافقة الألمانية عليها كانت تظاهرات الشارع تدعو بوش والمستشار الألماني شرويدر إلى وقف حروبهما وتندد بكل من العولمة والمعايير الأمريكية المزدوجة والتنصل الأمريكي من الاتفاقات الدولية وذلك في فعاليات لم تغب عنها المواجهات الدامية مع الآلاف من عناصر الشرطة الألمانية التي خصصت لحماية أماكن تواجد الرئيس الأمريكي من وصول المتظاهرين إليه...
في موسكو وحتى قبيل وصول بوش كانت تظاهرات القوى الشيوعية واليسارية الروسية تحتشد أمام القنصلية الأمريكية منددة بسياسات الهيمنة والتفرد الأمريكي وانبطاح الرئيس بوتين أمامها، تماماً كما كان المشهد في بطرسبورغ (لينينغراد) وذلك رغم الاختراق الكبير الذي حققه بوش رسمياً من خلال جملة الاتفاقيات التي وقعها في روسيا وأبرزها «ستارت3» أو خفض الأسلحة النووية الاستراتيجية بين الطرفين في اتفاقية تؤدي ظروفها ومعطياتها عملياً إلى تخفيض القدرة الروسية حتى على الدفاع عن النفس بالمعنى الاستراتيجي.
بوش في فرنسا لم يكن أحسن حالاً حيث كان يجري محادثاته مع نظيره شيراك على وقع تظاهرات شعبية تندد شعاراتها ولافتاتها بالانحياز الأمريكي الأعمى للسياسة الإجرامية الاسرائيلية: «بوش وشارون سفاحان/ اصمدي فلسطين كلنا معك»، وبالحروب وتهديد العراق: «نريد العدالة ولنوقف الحروب/ لا لقصف العراق»، وتستنكر هتافاتها وجود بوش في فرنسا: «بوش لست موضع ترحيب لا في فرنسا ولا في أي مكان في العالم» في حين قال جوزيه بوفيه المتحدث باسم الكونفدرالية الفلاحية والمعروف بنشاطه الأممي المناهض للعولمة: «يجب أن لا نصدق منطق الخير الذي يطلقه بوش في مواجهة محور الشر إنه منطق هيمنة تحاول حكومة بوش ترسيخه.» ودعا بوفيه إلى احتجاجات مماثلة في روما واشبيلية تحت شعار عولمة الكفاح من أجل عولمة الأمل..
وفي نتائج جولة بوش الأوربية يبدو التباين واضحاً، إذ أنه في ألمانيا وعلى خلفية التظاهرات المناهضة لسياسة إدارته عمل على إبقاء الجسور مفتوحة مع أكبر قوة أوربية متفادياً الدخول في المواضيع الشائكة بين طرفي المحيط الأطلسي، وليس أقلها مواضيع التجارة الحرة والرسوم الجمركية الأمريكية المتناقضة مع أبسط مبادئها، والقوة العسكرية الأوربية المأمولة واحتمال تبلورها كشكل أوربي مواز لحلف الأطلسي بقيادته الأمريكية، ومناقشة السلوك الأمريكي القائم على الانسحاب من المعاهدات الدولية بحسب مقتضيات المصلحة الأمريكية «العليا»، في حين لم يعمل المستشار الألماني على إبراز النزعة الامبريالية الألمانية المتنامية للخروج من تحت العباءة الأمريكية كما كان سائداً في الفترة الممتدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي، ولكنه لجأ إلى الإنجاح البروتوكولي لزيارة بوش مكتفياً بالتعليق وإبداء الرأي حول بعض الأحداث العالمية الكبرى مثل مجريات الأوضاع في الشرق الأوسط ضمن سياق عولمة المفهوم الأمريكي للإرهاب وخلطه بحق الشعوب في المقاومة..
وفي روسيا يبدو أن استقبال بوتين لبوش في منزله من باب رد المجاملة لحفلات الشواء التكساسية التي أقامها بوش لبوتين، عندما كان الأخير في زيارته، بهدف تكريس شكل جديد لتوثيق العلاقات بين الأمم كما أكد بوش في حينه، انسجم هذا الاستقبال الروسي مع حجم التنازلات التي تقدمها موسكو بوتين لواشنطن ضمن مراهنات تهدد بنظر معظم المراقبين المصالح ا لجيوسياسية لروسيا وأمنها القومي ولاسيما من الناحية العسكرية سواء فيما يتعلق بالتواجد الأمريكي على تخوم روسيا في آسيا الوسطى وأفغانستان أو الموافقة على توسيع حلف الأطلسي شرقاً ليضم تسعة بلدان إضافية في وسط وشرق أوربا مقابل دخول موسكو إلى مجلس العشرين الذي يضمها داخل قوام خلف الأطلسي ببلدانه التسعة عشرة دون أن يكون لها حق النقض فيه.. وهي تنازلات متسلسلة تسهم بدورها في تشجيع بوش على إطلاق تحذيره للعالم بأسره بأن هناك علاقة متميزة باتت تربط الولايات المتحدة بروسيا، بمعنى توجيه الدعوة أمريكياً إلى من يريدون المراهنة على تحصيل أي دعم روسي في أي مواجهة محتملة مع الولايات المتحدة إلى الكف عن مراهناتهم: فالحرب الباردة انتهت وروسيا الرسمية على الأقل انضوت تحت المظلة الأمريكية.. وهي تنازلات باتت تشجع بوش أيضاً على التمادي لإطلاق التحذيرات حتى في وجه موسكو بوتين التي يتشدق بالحديث عن صداقتها الجديدة عندما كشف عن وجهه الآخر مهدداً إياها: «إذا ما قمتم بتسليح إيران فإنكم معرضون لأن تصوب الأسلحة إليكم..!»..
وفي فرنسا حيث قوبل أيضاً ببعض التحفظات التي أثارها نظيره شيراك بخصوص الشرق الأوسط واتفاق كيوتو الحراري وأفغانستان والعراق والهند وباكستان دون أن يصل بها إلى حد المواجهة وإنما عند حدود «تباين وجهات النظر للوصول إلى حلول مقبولة» بحسب شيراك، لجأ بوش في المؤتمر الصحفي المشترك إلى أسلوب الاستعراضات الأمريكية التهريجية المبتذلة تهرباً من بعض الأسئلة ولاسيما تلك التي لم يفهمها أو نسيها.. فمرة «كان يعاني من فرق التوقيت!؟» وأخرى يوضح فيها مبتسماً: «هذا ما يجري عندما يتجاوز المرء سن الخمسين!!؟»..
ويبدو أن الأرعن التكساسي الذي يحاول تنصيب نفسه سيداً على العالم مطلقاً اتهاماته الإرهابية الترهيبية كيفما اتفق لا يريد تحت تأثير غروره وقوته العسكرية التي تفجر الحروب ذات الغايات الاقتصادية في مختلف أرجاء المعمورة، لا يريد أن يدرك تماماً، رغم كل معرفته بذلك، أن العالم بحضاراته المتعددة الغنية وواقع معاناته من الصلف الأمريكي لن يتقولب في نهاية المطاف بحسب المعايير الأمريكية لأن هذه المعايير والسياسات ذاتها تسهم اليوم في تراكم عملية إعادة صياغة وعي شعوب العالم بعد كل المتغيرات العاصفة به تحت مقولة: «الإدارة الأمريكية عدوة الشعوب!» وأن هذا الوعي يسير إلى أفضل مراحله بانتظار استكمال تبلوره وصياغة المزيد من آلياته النضالية...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 176