مصر.. هل بدأت الفوضى والتوحش؟
سؤال يلح علي هذه الأيام. هل دخلت مصر إلى حالة من الفوضى، أو بتعبير أدق التوحش؟
ثمة ظواهر جديدة تؤكد ذلك، وتشير إلى تحول نوعي للأزمة الشاملة في البلاد.
الأساس بطبيعة الحال يكمن في السياسات التي تتبعها سلطة الطبقة المعادية بالمطلق للشعب والوطن، والموالية بالمطلق لأعدائهما، والقائمة على عملية نهب لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.
قال ماركس إن الرأسمالي حينما يصل معدل الربح الذي يحصل عليه إلى 300% فإنه على استعداد لفعل أي شيء بما في ذلك القتل.
في مصر تعتبر الأراضي المخصصة للبناء في المدن الجديدة- كلها في الصحراء حول القاهرة أساساً- أحد أهم روافد تكوين الثروة للطبقة (العصابة) الحاكمة في مصر. في هذه المدن فإن السعر المحدد للفدان (4160 متر مربع) هو خمسون جنيهاً مصرياً. في أحدث هذه المدن الجديدة (المسماة مدينتي) تم تخصيص عشرات الآلاف من الفدادين لصاحب مشروع هذه المدينة «شركة طلعت مصطفى» والد المحكوم بالاعدام هشام طلعت مصطفى الذي آلت إليه وأخوته الشركة بعد وفاة والدهم. يصل سعر المتر المربع من الأرض فيها الى 2000 جنيه مصري. بعملية حسابية بسيطة نجد أن سعر المتر المربع قد وصل الى أكثر من 180000 ضعف (مائة وثمانون ألف). ويقاس على ذلك كل هذا النوع من النشاط (توحش).
هذه سمة النشاط الاقتصادي للطبقة (العصابة) الحاكمة في مصر (توحش). وبدأت حالة التوحش هذه التي أفرزتها هذه الطبقة في الزحف على المجتمع، وامتدت آثارها الاجتماعية بشكل ملموس وطفحت كظواهر خطيرة على جسد المجتمع، تجاوزت مجرد الحوادث أو الحالات الفردية.
انزعجنا كثيراً من بروز ظاهرة «أطفال الشوارع» التي تم انكارها طويلاً إلى أن تفجرت. لكن ثمة جديد هو الأكثر بشاعة، متمثلاً في تجارة البشر، حيث شاع اختفاء الأطفال، الذين يتم اختطافهم وبيعهم لأغراض شتى، أهمها نزع أعضائهم البشرية والاتجار لها. وتم ضبط العديد من العيادات والمستشفيات التي تجري فيها عمليات انتزاع أعضاء الأطفال وبيعها لأغنياء دول الخليج وأوربا وأغنياء مصر أيضاً.
حادث غريب عن شهود موثوق بهم، أن عيادة طبيب أطفال في إحدى عواصم المحافظات تم إغلاقها، ليس بسبب قيام هذا الطبيب بسرقة الأعضاء البشرية، ولكن بسبب أن حادث سرقة تم في عيادته دون علمه. إذ دخلت سيدة ومعها طفلها إلى العيادة. وكان هناك آخرون مع أطفالهم بانتظار دور كل منهم لتوقيع الكشف الطبي. بكى طفل هذه السيدة وطلب منها أن تشتري له شيئاً ليأكله. تطوعت سيدة من المنتظرات في العيادة لاصطحاب الطفل لشراء ما يريد بحجة أنها هي الأخرى تريد شراء شيء، وطلبت من الأم المسكينة أن تهتم بابنها النائم في سرير أطفال «مغلق» لحين عودتها. وخرجت ولم تعد! وإزاء الحالة الهستيرية التي أصابت الأم قام الحضور بفتح السرير المغلق. فوجدوا به جثة طفل مفتوح البطن والصدر، وكل أعضائه منزوعة. ولم يتم العثور على السارقة. وتم إغلاق عيادة الطبيب.
عشرات من جرائم سرقة الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية تنشرها الصحف، لكن لمجرد أخبار، ولا يتناولها أحد باعتبارها نتاجاً لنظام اجتماعي وسلطة طبقة قائمين على الجريمة. لا يتناول أحد الجريمة سوى في ذاتها، وتصوير قسوتها. دون التطرق الى الأساس الاجتماعي الذي أوصل إلى هذا النوع من الجرائم. وفي تجاهل لحقيقة أن القضاء على هذه الجرائم وغيرها لن يتم سوى باستئصال الأساس الاجتماعي المتمثل في الطبقة الحاكمة وسلطتها السياسية.
عادت هذه الأيام قضية التوريث لتطفو بقوة من جديد. وبطبيعة الحال فإنه لو تم توريث السلطة لـ«جمال مبارك» تحديداً فإننا ذاهبون لا محالة إلى محرقة حقيقية.
غير أن الوضع المأساوي للبلاد يتمثل في اضمحلال النخبة السياسية التي تخلت عن كل شيء وباعت نفسها للسلطة السياسية بأبخس الأثمان. ولا شك في أن العامل الرئيسي في كل ذلك يعود الى أن (المكون) الرئيسي لقيادتها ولقوامها الأوسع جاء من الفئات الوسطى ذات الطبيعة الرخوة والرجراجة والمتأرجحة والمتذبذبة والأنانية، بما في ذلك الجانب الأكبر من أقسامها اليسارية التي تخلت في لمح البصر عما كانت تدعيه من انتماء إيديولوجي. لقد امتلكت هذه النخبة فقط القدرة على إقصاء العمال والفلاحين وطلائعهم، لتخلو الساحة لهم للمساومة والتراجع والاستسلام في النهاية.
أدى هذا الوضع المعقد، وفي ظل عدم قدرة من تبقى من النخبة الطامحة للتغيير على اقناع العمال والفلاحين (خصوصاً حركاتهم الاحتجاجية الواسعة) بالمشاركة في النضال السياسي العام، خصوصاً تحت وطأة الدعاية المكثفة حتى من أطراف يسارية لإقناع الحركات الاحتجاجية بعدم المشاركة في النضال السياسي اكتفاءً بالعمل المطلبي الفئوي والجزئي. أدى ذلك إلى تفاقم الوضع. وهو ما يتطلب جهوداً جبارة لتغييره.
نتيجة لذلك فإن جانباً هاماً من قوى التغيير- بوعي أو دون وعي، بحسن نية أو بسوء نية لا يهم- وإزاء هذا الوضع المعقد، وعدم استيعاب فداحة الكارثة التي يعيشها الوطن، والاستحقاقات الهائلة التي يتطلبها التغيير المنشود، فإنه يجري التوجه إلى عناصر من قمم الفئات الوسطى بطبيعتها الرخوة والرجراجة التي لا تختلف بالفكر أو الموقف مع جوهر السياسات الاقتصادية والاجتماعية للسلطة القائمة، ولا يتجاوز أفقها في أفضل الأحوال الموقف الإصلاحي. ولا تمتلك بحكم وضعيتها الاجتماعية وأفقها السياسي القدر اللازم من الصلابة والانضباط القادر على التعامل مع تركة سلبية وفظيعة و هائلة تسودها الفوضى والتوحش.
إن البلاد بحاجة إلى قوى وطنية حقة تمتلك القدرة والصلابة والجسارة والانضباط يمكنها النهوض بعبء كنس هذه التركة، لأن القوى الرخوة لا تصلح لاستعادة مصر وإخراجها من حالة الفوضى والتوحش الراهنة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 412