إبراهيم البدراوي - القاهرة  إبراهيم البدراوي - القاهرة 

التاريخ لن يرحم.. 

رغم أن شاشات قنوات التلفزيون المصرية امتلأت بطريقة فجة بإعلانات الجمعيات الخيرية للتبرع للفقراء، بداية من الدعوة للتبرع لتوفير وجبات غذائية وتوزيع «شنطة رمضان» وتفاخر بعض هذه الجمعيات باستهداف توزيع نصف مليون وجبة، وانتشار «موائد الرحمن» التي وصل عدد المترددين عليها إلى مليوني شخص حسب ما نشر، إلى الدعوة للتبرع لتزويج اليتيمات، إلى مساعدة الأرامل والأيتام، إلى إعلانات لبعض رجال الأعمال عن مشروعات صغيرة للفقراء. رغم كل ذلك فقد ازدادت أعداد المتسولين في الشوارع وفي قطارات ومحطات مترو الأنفاق وباقي المواصلات العامة والمقاهي الخ (هذا في العاصمة فما بالنا بالأقاليم).

أشار تقرير التنمية البشرية الأخير إلى أن 40% من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر (أي 30 مليون إنسان). ورغم أن هذه النسبة أقل من الواقع، فإن من يقفون فوق خط الفقر مباشرة، وبالقرب منه يشكلون، مع من يرزحون تحته، الغالبية الساحقة من الشعب.

لم يعد هناك (هرم اجتماعي) في مصر. يوجد أمتان فقط: أمة الكادحين والجياع، وهم الغالبية الساحقة، أما الأمة الأخرى فهم محدودو العدد والثقافة الذين فقدوا روح الانتماء للوطن، وجلبوا اللصوص وقطاع الطرق الامبرياليين والصهاينة ليشاركوهم نهب ثروات الوطن التي تم حرمان الشعب منها، (وحولهم عدة ملايين تقل عن عدد أصابع اليد الواحدة من قمم الفئات الوسطى) أقيمت وتقام مدن مؤمنة لإقامتهم. بدأنا نسمع عن غرف «الأكسجين» في قصورهم، وعن «حقن الأوزون»، وعن استئجارهم طوال العام لغرف «العناية المركزة» بالمستشفيات حيث لا يستطيع المرضى في الحالات الحرجة الحصول على هذه الخدمة الخ...

المجرمون يحكمون ويستحوذون (مع طواغيت المال الأجانب والصهاينة والعرب) على كل شيء. ويستخدمون كل أشكال القمع المادي والروحي، سواء بقوة قوانينهم وإعلامهم الرسمي أو الخاص، وتحت مظلة قوات أمن جرارة (لن يستطيعوا السيطرة عليها للأبد) إذ ليس هناك سلطة قائمة على الظلم الاجتماعي والاستغلال اللامحدود  تستطيع أن تعيش بالقمع وحده. بل يصل الأمر إلى أن يفرضوا على رجال الدين ما يقولونه في خطب الجمعة في المساجد خصوصاً فيما يتعلق بمشاكل الناس المعيشية الراهنة  حيث يمكن تجاوزها بالدعاء بالبركة وليس بإحلال العدل!!

حينما تم إبرام اتفاقية «الكويز» التي مثلت اختراقاً إسرائيلياً للصناعة المصرية، والتي حددت مصانع الملابس التي تشملها الاتفاقية حدثت ضجة هائلة من باقي (أغلبية) مصانع الملابس. وكان الظن بأن هذه الضجة والاحتجاجات الهائلة تنطلق من موقف وطني، ولكن سرعان ما ظهرت الحقيقة في غضون أيام قليلة جداً. إذ أن هذا الصخب وهذه الاحتجاجات كانت بسبب أن الاتفاقية لم تشمل الجميع، واستئثار البعض بها. هنا تتكشف برجوازيتنا على حقيقتها!!

هنا ينكشف الأمر، كما ينكشف أولئك الذين يدمرون القطاع العام تحت شعار مشاركة القطاع الخاص و«البرجوازية الوطنية» في التنمية، ويطلقون يد هذه البرجوازية في تملك الاقتصاد الوطني. إذ أنه بفرض وجود برجوازيين وطنيين (وهذا وارد)، غير أن الطبقة «كطبقة» قد ألقت بعلم الوطنية في الوحل، ولا ينبغي إطلاق العنان لها.

إذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى شريحة برجوازية «متوسطة» تعمل في صناعة الملابس الجاهزة، فما بالنا بالبرجوازية الكبيرة المتوحشة في المجالات الصناعية والتجارية والمالية والأخرى؟ لقد تم بناء السور الذي أقامه الصهاينة في فلسطين بأسمنت مصري يمتلك مصانعه وقام بتصديره أحد كبار البرجوازيين المصريين. كما يمتلك أحد قمم البرجوازية المصرية حصة كبيرة في الشركة التي تقوم بتصدير الغاز المصري إلى العدو الصهيوني. وكلاهما في قمة الطغمة الحاكمة. إن الربح بالنسبة لهؤلاء المجرمين هو الوطن بل هو الإله الذي يعبدونه.

هذا يفضح رياء هذه الطبقة التي تملأ شاشات القنوات التليفزيونية بإعلاناتها التي تتخلل المسلسلات (الخمسين) التي تعرض هذا الشهر، والتي تحاول أن تزيف واقعهم بالدعاية لهم وإلى إسهاماتهم في أعمال «الخير» ومساعدة الفقراء والمساكين.

ألم تتسع بشكل لا سابق له دائرة هؤلاء الفقراء نتيجة امتصاص هؤلاء من المصريين والأجانب لدماء الشعب ونهب ثروات البلاد؟ ألم يحدث ذلك نتيجة لبيع وتدمير القطاع العام وتخريب الصناعة الوطنية وتشريد العمال، وتدمير حياة فقراء الفلاحين، بعد كنس كل قوانين الحماية الاجتماعية. ولا يزال المسلسل مستمراً؟

هذه الإعلانات التي تتكلف الملايين للدعاية لرجال الأعمال، وإعلانات الجمعيات الخيرية التي تطالب بالتبرع لأعمال الخير والإحسان هي الجانب المكمل لما يسمى «المجتمع المدني» الذي زيفوا مضمونه الأصلي، والذي يشمل أيضا جمعيات «حقوق الإنسان» الممولة امبريالياً وصهيونياً والتي تعمل وفق أجندات معادية لحق الحياة. إن الدور المنوط بهؤلاء جميعاً هو تغطية وتمويه انسحاب الدولة من دورها الاجتماعي، بعد أن تم سلب حقوق الشعب الاجتماعية (واقعياً أو قانونياً لا يهم)، وكذا الحد الأدنى من إمكانيات استمرار الناس على قيد الحياة.

إذا كان هؤلاء وفي أوج نشاطهم في رمضان، يغطون نسبة لا تصل أبدا إلى 10% من احتياجات الملايين من الجياع والمرضى، فماذا عن الباقين، وماذا عن باقي العام؟ وأي رياء ذلك الذي يحاول التغطية على تجويع عشرات الملايين، لتصب عشرات المليارات في خزائن وحسابات أفراد قلائل. والغريب هو رفع شعار أو عبارة العدل والإحسان للتغطية على المأساة. فهل من العدل أن يكون هناك عشرات الملايين ينتظرون ذلك الإحسان؟

لسنا ضد التكافل الاجتماعي. ولكن الصيغة الصحيحة سياسياً واجتماعياً ودينياً وأخلاقياً أن تكون كل الثروة لكل الناس، لتختفي في النهاية ولو تدريجياً ظاهرة الفقر ومن يستحقون الإحسان.

لا ينفصل هذا الواقع الأليم الناتج عن اغتصاب واستحواذ البرجوازية المجرمة على الثروة والسلطة عن كافة سياساتها الوطنية والقومية والدولية. لاتنفصل عن الصلح والتطبيع مع العدو الصهيوني، ولا عن العداء لكل قوى المقاومة بكل أشكالها، ولا عن حصار غزة، ولا عن الارتماء تحت أقدام الامبريالية، ولا عن توريث السلطة لـ«جمال مبارك» الموظف السابق في أحد البنوك الأمريكية، والذي سيوصل الشعب المصري فيما لو تم التوريث إلى قاع جهنم.

 

لن يغفر التاريخ- وسوف يحاسب دون رحمة- كل من يتغافلون أو يسكتون ولا يعملون على إزاحة هذه السلطة وهؤلاء المجرمين عن سدة الحكم، وإنقاذ الوطن والشعب.