سقوط القذافي و«لعبة» الفصول والفواتير
بعد ستة أشهر تقريباً من الاحتجاجات والاضطرابات ومختلف صنوف القمع والمعارك تحت مظلة التدخل الأمريكي الأطلسي السافر- تحضيراً وتنفيذاً، سقط «ملك ملوك أفريقيا»، العقيد معمر القذافي، قائد ثورة الفاتح، و«عميد الرؤساء والملوك العرب» حسب توصيفه، ليترك عموم المتلقين يشيرون بدرجة أو بأخرى إلى أن ذلك يعد تسديداً منه لاستحقاقات فاتورة الاستبداد والإقصاء الذي مارسه طيلة عقود أربعة ونيف من وجوده بالسلطة فعلياً، وليس مختبئاً، تحت الأرض أو فوقها، أو مستمراً «بالحكم» بقوة أي استعصاء ميداني مؤقت.
عند المستوى الأول وبعيداً عن المكتفين بالشق التآمري بخصوص ما جرى ويجري في ليبيا فإنه من الثابت واقعياً وتاريخياً أن استبداد الأفراد أو النظم يشكل مناخ الاستياء وانعدام الرضا لدى كل المتضررين، تماماً مثلما يزيد من جيوب الفساد وكذلك التآمر من كل شاكلة ولون، ومن مختلف المواقع، داخل أجهزة الدولة وفي المجتمع على حد سواء، ليشكل البيئة الحاضنة للانقلاب على النظم المستبدة، أو على الجوانب المستبدة في النظم الأقل سلطوية أو ذوات الخصوصيات، مثل تعبير بعضها عن مواقف وطنية شعبية جامعة أو خوضها صراعاً مكشوفاً مع عدو خارجي يتربص بها، كالحالتين السورية والإيرانية، على سبيل المثال.
وإذا كان مآل «الاستبداد» هو «الثورة عليه» في نهاية المطاف، وإذا كان من شأن ما يحب الإعلام الغربي والعربي المرتبط به تسميته بـ«الربيع العربي» أنه يسهم في تعرية الأنظمة العربية، فإن هذا «الربيع» ذاته وبالمقدار نفسه عرى ولايزال «المعارضات» العربية، منفردة ومجتمعة داخل البلدان وعلى مستواها الكلي، وبيَّن الضعف البنيوي لدى هذه المعارضات وضياع رؤاها وبروز هواجس الانتقام السياسي والرغبة الجامحة بالوصول إلى السلطة لديها أكثر منه الحرص على تشكيل البدائل على أساس وطني وبرنامجي واضح، مثلما أظهر قدرة بعضها على التحول إلى مأجورين بالرؤى والأهداف والخطط والمال والسلاح لقوى الخارج.
بالمثل فإن هذا «الربيع» الذي بدأ بتونس ولن ينتهي بسورية، ومن خلال الدرس الليبي تحديداً، أظهر مكامن الضعف الكبرى لدى الشعوب العربية وانكشاف بنيتها غير السليمة وأمراضها الخبيثة ونزعاتها الثانوية وتدني مستوى وعيها السياسي والمعرفي وحتى الحضاري بالمعنى المعاصر، وهو ما يرتبط بالدرجة الأولى بالشق الأول، كون الاستبداد، وخاصة في ظل غياب وقبول تغييب المشاريع التحررية والتنويرية والتنموية والديمقراطية والثقافية، ينتج مجتمعات وأجيالاً ومعارضات وأمزجة وأنماط فرز وبنى وفضاءات سياسية اجتماعية ومواقف لا تقل حدية واستبداداً وعسفاً وإقصاءً وإنكاراً للآخر.
القذافي يدفع فواتيره، بما فيها استخدام الطائرات والسلاح والاعتقال بحق المحتجين عليه، واليوم ستدفع «معارضته» المسلحة أثمان ارتهانها لمن دعمها وموّلها ومدها بالسلاح، ليبقى السؤال الأخطر هو عن حجم الفواتير التي ستدفعها ليبيا، الأرض والشعب، والتي يتوقع في ظل طبيعة النظام الذي سيجري تنصيبه على ليبيا بمباركة أطلسية أمريكية، كما كانت الحال ولاتزال في العراق المحتل، أن تكون باهظة وقائمة على الارتهان السياسي والاقتصادي للخارج بالمطلق: احتلال غير مباشر من جانب الولايات المتحدة وبقية دول الأطلسي، بما يدخل ليبيا، القبائلية العشائرية أساساً، في «خريف» يعود بها عقوداً إلى الوراء وتحديداً في مسألة تناغم النسيج الاجتماعي والمصالحة الوطنية، والسيادة الوطنية.
وإذا كان الجميع، في سورية وحولها، نظاماً بأجهزته ومؤسساته ومعارضة ومتظاهرين ومسلحين، مؤيدين ومعارضين، متضامنين ومراقبين، يرسمون أوجه التماثل والاختلاف بين الحالتين السورية والليبية وتراهم يحذرون من، أو يطلبون التدخل الأجنبي، فإن أخطر ما يهدد سورية كوطن في ذلك هو حالة الاستقطاب والفرز الوهمي الخاطئ القائمة فيها بخصوص مجرياتها هي، حيث تنعكس بدورها على تلقف الحالة الليبية بـ«أوهام» مماثلة بين من يرى العنصر الأطلسي والمعارضة المشبوهة ليؤكد أنها «مؤامرة بحتة» وبين من يرى الاستبداد ومصيره ويجد ما جرى «نتيجة طبيعية صرفة» لذلك.
إن سقوط ليبيا، وليس القذافي فحسب، تحت سيطرة واشنطن والأطلسي وفوضاهما الخلاقة يضع المنطقة العربية برمتها، وفي مقدمتها سورية بكل مكوناتها الآن، على المحك، فإما أن تكون بلا استقواء على الشعب ولا استقواء بالخارج، أو لا تكون.
الأربعاء 24/8/2011
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.