بلاد العم سام: للفقراء مطاعم حساء.. ومدن من الخيام..!
أثارت الأزمة الخانقة في الولايات المتحدة أزمة اجتماعية ذات أبعاد تاريخية، حيث أصبحت مطاعم الحساء هي الأكثر رواجاً، وقد ظهرت العديد من المخيمات في ظلال أبراج مكاتب الرأسمالية المتلألئة، كما تأثرت الوظائف والأعمال في بنوك نيويورك و«وول ستريت» مؤخراً، وازدادت سوءاً نتيجة الأزمة الراهنة.. وقد طال الأذى الجميع بمن فيهم تجار المخدرات، ففي الأيام الخوالي كان التجار يوفرون نخبة الأصناف من (الكرك والكوكايين) لزبائنهم الميسورين عموماً، ولكن بالوقت الحاضر، وبعد أفول أيام العز واندثار الرفاهية، بدأ التجار يقضون معظم أوقاتهم في ملاجئ المشردين وقاعات الكنائس بحثاً عن الطعام والمأوى..!
■غريغور بيتر شميتز - غابور ستين غارت
ترجمة: قاسم سلامات
أحد التجار (ألفن 47 عاماً)، أكد بأن زبائنه تلاشوا كما تلاشت الأموال التي جناها من تجارته السابقة، وأن تاجر المخدرات الذي كان في قمة سلسلة الغذاء الأمريكية قد ولى زمانه، وبات من لا يدفع فواتيره ينال عقوبة الإعدام!!
ألفن هذا، أخلى شقته في لويزيانا في وقت سابق، وذهب إلى أقدم ملاجئ المشردين في نيويورك! ورغم أن الطلب على سرير لقضاء الليل في مأوى من الصعوبات الكبيرة وربما يكون أحد المستحيلات، إلا أنه نام ليلته السابقة أمام المنبر.
مظاهر عامة
هذه هي حالة الكثير من «المخلفات البشرية»، حيث يجتمع المهمَّشون كل مساء في المأوى وهم مصابون بخيبة أمل كبيرة، منتظرين أن تخصص لهم أسرّة للنوم، أو حتى حصيرة على الأرض، أو ربما أحد كراسي الكنيسة الطويلة غير المبطنة المقدمة من مدير المأوى. ومن المفارقات الغريبة أن تبرعات العام الماضي هبطت 13% عن العام الذي سبقه.
الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة أوصل البلاد إلى أزمة اجتماعية لم تشهد لها البلاد مثيلاً منذ بدايات القرن العشرين، فانخفاض أسعار الأسهم وانخفاض أرباح الشركات، حرم الملايين من موارد رزقهم.
أما الفقر فقد أصبح ظاهرة اجتماعية شائعة، والسمة الأبرز للبلاد، ووصل عدد من فقدوا تأمينهم الصحي إلى 50 مليون مواطن أمريكي، وهناك المزيد ينضمون إلى صفوفهم يومياً، بالإضافة إلى ما يزيد عن 32 مليون شخص يتلقون الإعانات الغذائية على شكل كوبونات. وبالمجمل فقد وصل عدد من لا يملكون مأوى أو سكن إلى 13 مليون إنسان.
وكل هذه الأرقام في ازدياد مستمر، تتسارع بالتزامن مع الارتفاع السريع في معدل حبس الرهن العقاري، حيث وصلت الزيادة إلى 45% في شهر آذار 2009 عما كانت عليه في الشهر نفسه من العام السابق...
الكثير من الناس غطوا نوافذ منازلهم للحفاظ على شيء من الخصوصية، ووضع البعض الأخر لافتات كتب عليها (اقترب إذا كنت جريئاً)، متأملين ردع لصوص السيارات وغيرهم من المجرمين.
الأزمة رمت بثقلها أيضاً على حي (جورج تاون التاريخي) أحد أحياء العاصمة واشنطن، وهو حي معروف بترفه، ويعد مسكناً للكثير من السياسيين والمحامين وأصحاب النفوذ والسلطة. فمن قد ينسى إغلاق سيارته ليلاً من المتوقع أن يشهد ضيوفاً غير مرغوب فيهم ينامون في السيارة حتى صباح اليوم التالي.
ومن إحدى الحوادث الطريفة تلك التي وقعت لموظفة تعمل لإحدى سفارات الشرق الأوسط، حيث ذهبت صباح أحد الأيام لتجد إحدى النساء في سيارتها تحمل حقيبة يد وعقداً من اللؤلؤ.. الضيفة كانت قد قضت الليل على مقعد السيارة، وفي الصباح حين افتضح أمرها، غطت وجهها بحياء الذليل، واعتذرت وهي تغادر المكان مسرعة.
فقدان الوظائف هو غالباً ما يكون المؤشر الفعلي على بداية النهاية في حياة الطبقة الوسطى.. الجنون والانفعال في الشركات الأمريكية أثار موجة مستمرة من عمليات تسريح كوادر أساسية من الطبقة العاملة، حيث سجلت قوائم البطالة في شهر آذار 690.000 عامل، وفي شهر شباط 850.000 وفي كانون الثاني 510.000، ومنذ بداية الأزمة في صيف 2007 ازداد العدد الإجمالي للبطالة في الولايات المتحدة حتى تجاوز الستة ملايين.
شبكة الأمان الحكومية لم تعد كافية الآن، فهي ليست قادرة على التأمين للناس الذين فقدوا وظائفهم.. ومواصلة المواطنين حياتهم بالطريقة السابقة أصبح أمر غير ممكن. الإفراط الاستهلاكي في السنوات السابقة أدى إلى إفلاس الحسابات المصرفية للناس العاديين. أما الحسابات الاستثمارية للطبقة الوسطى فقد انخفض متوسطها بقيمة 40%.. كل هذه العوامل في نهاية الأمر أوصلت إلى فقر شديد ومدقع.
الآونة الأخيرة شهدت قضاء بعض السياسيين لأوقات مطولة في زيارة ملاجئ المشردين لتخفيف الاحتقان الاجتماعي في صفوفهم، بينما كانوا يقضون هذه الأوقات في عمليات السليكون والتجميل.. ومؤخراً، قام الرئيس أوباما بمساعدة في طلاء أحد الملاجئ القريبة من البيت الأبيض، وقال في إحدى خطبه محاولاً بث التفاؤل: «إن مستقبل النمو الاقتصادي قد يخلق وظائف جديدة ويرفع من معدل الدخل».. إلا أنها كلمات رنانة بدت دون جدوى في الأزمة الراهنة. فالرئيس يجب أن يعلم أن البلاد تنهار، وأن مستقبل أمريكا هش بسبب اختفاء الوظائف وانخفاض معدل الدخل.
الأزمة أرخت بثقلها على الثلث الأفقر من السكان الأمريكيين، وأكثرت من وجود مطاعم المتشردين، وازداد الإقبال على الملاجئ التي أصبحت غير كافية بسبب الطلب المتزايد، وأقدمت الكثير من الشركات الخاصة في الولايات كافة على سحب تمويلها لمشاريع الرفاهية الاجتماعية، ومن سخرية الأقدار أن كرم هذه الشركات توقف في ظل ظروف الفقر الاجتماعي لأمريكا.
الحكومة ساهمت في تفاقم الأزمة، فعلى الرغم من تقديمها لأموال إضافية للمشردين، إلا أنها في المحصلة خفضت الميزانيات الاجتماعية. وأحد أسباب هذا التخفيض يرتبط بالدستور القائم الذي يمنع الولايات الأمريكية من الوقوع في الديون، في إطار نظام اقتصادي قسري.