حتى الاقتصاد.. أكذوبة أيضاً..!
لا يستطيع الأمريكيون استخلاص أية حقيقة من حكومتهم حول أي شأن، بما في ذلك الاقتصاد. كما أنهم يدفعون إلى الحضيض اقتصادياً، مليون طفل من أطفال المدارس دون مأوى في الوقت الراهن، في حين يعلن رئيس الاحتياطي الفدرالي بن بيرنانكة أنّ الكساد انتهى.
الهبوط اللولبي الذي يتخفى مثل الأخبار يصبح أكثر تضليلاً. يعادل الإنفاق الاستهلاكي 70 بالمائة من الاقتصاد الأمريكي. وهو قوّةٌ دافعة، توقفت الآن. باستثناء مفرطي الثراء، توقفت دخول المستهلكين عن النمو في القرن الواحد والعشرين. يذكر جون وليامز، الخبير الإحصائي، لموقع shadowstats.com أنّ دخل الأسرة الحقيقي لم يستعد أبداً الذروة التي بلغها في العام 2001.
يواصل الاقتصاد الأمريكي استمراريته عبر إحلال نمو الدين الاستهلاكي محل نمو الدخل الاستهلاكي. فقد شجع آلان غريسبان، رئيس الاحتياطي الفدرالي، الدين الاستهلاكي بعرض أسعار فائدة منخفضة. أدت أسعار الفائدة المنخفضة إلى رفع أسعار المنازل، ما مكّن الأمريكيين من إعادة تمويل منازلهم وإنفاق قيمتها. بدت البطاقات الائتمانية أبعد ما تكون عن توقعات ارتفاع أسعار العقارات وقيمتها المعادلة لدفع الديون المتراكمة، توقفت الحفلة حين انفجرت فقاعة العقارات.
حين لم يعد بوسع المستهلكين زيادة مديونيتهم ولم ترتفع دخولهم، لم يعد هنالك أساسٌ لنمو اقتصادٍ استهلاكي. في الواقع، تشير الإحصائيات إلى أنّ المستهلكين يسددون ديونهم في جهودهم المبذولة للنجاة مالياً. في اقتصادٍ يكون الاستهلاك قوّته الدافعة، يعني ذلك أنباءً سيئة.
أما المصارف، مصارف الاستثمار الآن، وبفضل الطمع الذي أدّى إلى إلغاء قيود التنظيم، ما أبطل دروس الماضي. فقد كانت أكثر تهوراً من المستهلكين، واندفعت في مضارباتها نحو قممٍ جديدة. وبإلحاحٍ من لاري سامرز وهنري بولسون المدير التنفيذي لغولدمان ساكس، سايرت إدارة بوش ولجنة الأوراق المالية والتبادل نزع القيود عن رافعة الدين.
حين انفجرت الفقاعة، عرّضت الرافعة الاستثنائية النظام المالي لخطر الانهيار. تقدّمت وزارة الخزانة والاحتياطي الفدرالي دون أن يعرف أحدٌ كمّية تريليونات الدولارات اللازمة لـ«إنقاذ النظام المالي»، والذي يعني بطبيعة الحال إنقاذ المؤسسات المالية التي يقودها الطمع والتي تسببت بالأزمة الاقتصادية التي جرّدت الأمريكيين العاديين من نصف مدخرات عمرهم.
عوقب المستهلكون وليس المصارف. وبجرعة الإنعاش البالغة 700 مليار دولار وميزانية الاحتياطي الفدرالي الموسّعة، سلكت المصارف مجدداً مسلك صناديق التحوّط. تنتج المضاربة المدعومة فقاعةً أخرى مع استجماع سوق الأسهم المالية لقواه حالياً، وهو ليس علامة معافاةٍ اقتصادية، بل تبديدٌ نهائي لثروة الأمريكيين تقوم به حفنةٌ من المصارف وأصدقائها في واشنطن. أعلن غولدمان ساكس، وأرباحه تتدفّق، عن علاواتٍ لموظفيه من ستة أرقام.
تعاني بقية أمريكا بشدة. فمعدلات البطالة، كما ذكر، خياليةٌ وهي كذلك منذ إدارة كلينتون. لا تتضمّن معدلات البطالة العاطلين الأمريكيين عن العمل الذين لم يعملوا منذ أكثر من عام وأقلعوا عن البحث عن عمل. معدل البطالة المذكور ومقداره 10 بالمائة يبخس معاناة ملايين الأمريكيين العاطلين عن العمل منذ زمنٍ طويلٍ والذين لم يسجلوا كعاطلين عن العمل. بمرور كل شهر، ينخفض عدد الأمريكيين العاطلين عن العمل لا لشيء، بل بسبب انقضاء الوقت.
من جانبٍ آخر، فإن معدّل التضخّم، خاصّةً «التضخّم الأساسي»، خياليٌ أيضاً. لا يتضمّن «التضخم الأساسي» الغذاء والوقود، وهما أكبر بندين في ميزانية الأمريكيين. يفترض مؤشّر الأسعار الاستهلاكية (CPI)، حتى منذ لجنة بوسكين في عهد كلينتون، أنّه حتى لو ارتفعت أسعار بعض البنود، فسيستبدل المستهلكون بها بنوداً أرخص. تلك هي الحال بالتأكيد، لكنّ هذه الطريقة في قياس التضخم تعني عدم إمكانية مقارنة مؤشر الأسعار بالسنوات السابقة، لأنّ سلّة السلع في المؤشر تتغير.
يرفع مؤشر الأسعار الذي وضعته لجنة بوسكين معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، عبر خفض معدل التضخم المقاس. تكون نتيجة التلاعب الإحصائي تقليل معدل التضخم، وبالتالي تآكل القيمة الحقيقية لدخل الضمان الاجتماعي، والمبالغة في معدل النمو. يخفي التلاعب الإحصائي انخفاض مستويات المعيشة.
في الأيام الخوالي للازدهار الأمريكي، كانت دخول الأمريكيين ترتفع بزيادة الإنتاجية. كان النمو الحقيقي لدخول الأمريكيين هو الذي يدفع الاقتصاد الأمريكي. أما في أمريكا اليوم، فالدخول الوحيدة التي ترتفع هي في القطاع المالي والذي يعرّض مستقبل البلاد للمخاطر باندفاعه المفرط وبقيام الشركات بإحلال العمل الأجنبي محل مثيله الأمريكي. وفق قواعد التشديد على تعويض ريوع مالكي الأسهم، يقوم المديرون التنفيذيون في عالم الشركات بزيادة مكتسباتهم وتعويضاتهم إلى أعلى الحدود، من خلال تخفيض عمالة الأمريكيين إلى الحدود الدنيا.
حاولوا أن تجدوا إشارةً إلى ذلك في «وسائل الإعلام السائدة» أو بين الاقتصاديين، الذين يحصلون على منحهم من شركات ما وراء البحار.
الجزء الأسوأ من الانحدار لم يأت بعد. فعجز المصارف والمنازل المغلقة سيواصلان صعودهما، وإفلاس العقارات التجارية الحقيقية سيزداد، وأزمة الدولار تواصل احتدامها.
حين يحدث ذلك، سترتفع أسعار الفائدة على نحوٍ مباغت، وبينما تكافح الولايات المتحدة لتمويل ميزانيتها الهائلة وعجزها التجاري، يحاول بقية العالم الهروب من دولارٍ تقلّ قيمته باستمرار.
منذ ربيع هذا العام، انهارت قيمة الدولار مقابل كل العملات باستثناء تلك المرتبطة به. ارتفع الفرنك الفرنسي بمعدل 14 بالمائة مقابل الدولار. كل العملات الصعبة من الدولار الكندي إلى اليورو والجنيه البريطاني ارتفعت بما لا يقل عن 13 بالمائة مقابل الدولار منذ نيسان 2009. والين الياباني في طريقه للارتفاع، أما الريال البرازيلي فقد ارتفع بنسبة 25 بالمائة مقابل الدولار كلي القدرة، وحتى الروبل الروسي ارتفع بنسبة 13 بالمائة مقابل الدولار.
أية معافاةٍ هذه حين تكون الاستثمارات الأكثر أماناً تراهن مقابل الدولار الأمريكي. الأسرة الأمريكية في أيامي، حين كان الزوج يعمل وتتفرّغ الزوجة للبيت ورعاية الأولاد، بالكاد توجد اليوم. فغالبية أعضاء الأسرة، إن لم يكن جميعهم، عليهم العمل لدفع الفواتير. ومع ذلك، تختفي الوظائف، حتى الجزئية منها.
إن كان القياس يجري وفق المنهجية المستخدمة حين كنت مساعداً لوزير الخزانة، فإنّ معدّل البطالة في الولايات المتحدة اليوم يساوي 20 بالمائة. فضلاً عن ذلك، ما من وسيلةٍ واضحةٍ لخفض هذا المعدّل. لا توجد مصانع، وقوى عاملة مسرّحة مؤقتاً بمعدلات فائدة عالية، تنتظر سياسة خفض أسعار الفائدة لإرجاع قواها العاملة إلى الإنتاج.
انتقل العمل إلى الخارج. في الأيام الخوالي للازدهار الأمريكي، التصقت صورة المديرين التنفيذيين بحملهم مسؤوليات متساوية تجاه المستهلكين والموظفين وحاملي الأسهم. انقلبت هذه الصورة رأساً على عقب. يدفعهم ضغط وول ستريت وتهديد الاضطلاع بـ«قيمة حملة الأسهم المعززة» الموعودة، وتحفيز «الأتعاب المرتبطة بالأداء»، يستخدم المديرون التنفيذيون كل الوسائل لاستبدال العمالة الأجنبية الرخيصة بمثيلتها الأمريكية بالرغم من معدل بطالة يبلغ 20 بالمائة، إضافةً إلى خريجي الهندسة الذين لا يجدون عملاً أو حتى مقابلة للحصول على عمل، يواصل الكونغرس تأييد منح 65 ألف تأشيرة دخول للأجانب بغرض العمل.
وسط أعلى بطالة منذ الكساد العظيم، أي نوعٍ من الحمقى نحتاجهم لندرك أنّ هنالك نقصاً في قوة العمل الأمريكية المؤهلة؟