برعاية لاتينية: كولومبيا تودع الحرب الأهلية

برعاية لاتينية: كولومبيا تودع الحرب الأهلية

رغم أن المشهد على الساحة الدولية يبدو متجهاً نحو التصعيد بعض الشيء، إلا أن الحقيقة أن المواجهة لا تزال مفتوحة بين تيار السلم وخيار الحلول السياسية من جهة، وتيار الحروب والنزاعات العسكرية من جهةٍ أخرى. واحدة من الانتصارات التي شهدها التيار الأول خلال الأسبوع الماضي، تجلت في الاتفاق المبرم مؤخراً بين جبهة «الفارك» والحكومة الكولومبية، برعاية لاتينية خالصة.

 

شهدت مدينة كارتاخينا الكولومبية في 26/ أيلول مراسيم توقيع اتفاق سلام تاريخي بين الحكومة الكولومبية و«القوات المسلحة الثورية الكولومبية- فارك» ، في خطوة على طريق إنهاء حرب استمرت في البلاد طيلة اثنين وخمسين عاماً، وخلفت أكثر من 260 ألف قتيل، و45 ألف مفقود، و6.9 مليون نازح. وهو أطول صراع مسلح في تاريخ الأمريكيتين. وقد أعلنت الحكومة الكولومبية حالة الطوارئ، ومنطقة حظر جوي في مدينة كارتاخينا، أثناء مراسيم توقيع الاتفاق والمعاهدة بصفحاتها الـ300.

من أجل النمو الاقتصادي ووحدة البلاد

في توقيع كل من زعيم حركة «فارك»، تيموليون خيمينيز، والرئيس الكولومبي، خوان مانويل سانتوش، على اتفاق السلام، بدا واضحاً أن الرجلين، بما يمثلانه من تيارات موجودة داخل كولومبيا، قد غلّبا الحاجة إلى تعزيز النمو الاقتصادي في كولومبيا، وتوحيدها، وتحويل نفقات الحرب الدائرة هناك، نحو تعزيز موقع البلاد في القارة.

بموجب الاتفاق، ستتحول «فارك» إلى حزب سياسي. وسيطرح الاتفاق في استفتاء شعبي ليصوت عليه الكولومبيون في الثاني من شهر تشرين الأول. ويتعين على 8000 مقاتل من الجبهة تسليم أسلحتهم للأمم المتحدة، في فترة أقصاها 180 يوماً، وإخلاء 23 منطقة ومدينة كولومبية، تحت إشراف لجنة دولية مختصة والصليب الأحمر. 

وتضمن الاتفاق تعويض ضحايا الحرب، وتنشيط الإنتاج الزراعي في البلاد، وخاصة في المناطق التي كانت ساحة للمعارك، وشمول المقاتلين بقانون المحاربين القدامى. وكذلك تقرر إجراء الانتخابات البرلمانية بمشاركة الحزب الذي سينبثق عن «فارك»، ومنع الاعتقال السياسي لأعضاء الحركة.

ثمرة أربع سنوات من الجهود الكوبية

جاء اتفاق السلام ثمرة 4 سنوات من المفاوضات المضنية التي استضافتها العاصمة الكوبية هافانا بين سانتوش وخيمينيز. فقد جرى أول اتصال تفاوضي في كانون الأول لعام 2010، بوساطة كوبية، ومنذ ذلك الحين كان التفاوض صعباً، لكنه يتقدم ببطء، حتى لحظة توقيع الاتفاق. كما أن الاتفاق ليس الأول من نوعه، فقد فشلت قبله ثلاثة اتفاقات، غير أن هذه المعاهدة تحظى بفرص كبيرة للتنفيذ، نظراً لجدية الأطراف في التعاطي معها، وكذلك جدية دول أمريكا الجنوبية الراعية للاتفاق.

حضر حفل التوقيع على الاتفاق، الذي جرى في مدينة كارتاخينا المسورة، نحو 2500 شخصية دولية ومحلية بينهم أقارب ضحايا الحرب، والرئيس الكوبي، راؤول كاسترو، ووزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، والأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، ورؤساء، تشيلي، وكوستاريكا، والمكسيك، والإكوادور، وفنزويلا، ودول أوروبية عدة. 

من «بلد الطلقات» إلى «بلد المستقبل»

وفي لفتة رمزية، وقع الجانبان الاتفاق بقلم مصنوع من رصاصة أعيد تدويرها، ومنقوش عليها عبارة «الرصاص كتب ماضينا.. والتعليم مستقبلنا»، وسط حشد من الحضور ضم 2500 مدعو ارتدوا ملابس بيضاء، وبينهم 14 رئيس دولة وحكومة ووزراء خارجية. وقال الرئيس الكولومبي سانتوش إن الهدف من قرار استعمال قلم مصنوع من ظرف (خرطوش) طلقة في التوقيع على الاتفاق، هو إظهار أن كولومبيا سوف تمر في مرحلة تحول من «بلد للطلقات والحرب» إلى بلد «للتعليم والمستقبل». 

ويبقى الاتفاق معلقاً لغاية تنظيم استفتاء شعبي حول الموضوع، إذ يأمل الرئيس سانتوش في تنظيم الاستفتاء، فيما أعلنت القوات المسلحة الثورية التي طالبت لفترة طويلة بجمعية تأسيسية، انفتاحها على استفتاء شعبي يتيح النظر في حل مقبل لهذه النقطة الأخيرة.

تكمن أهمية الاتفاق المذكور آنفاً في أنه أكد أولاً على قدرة الدول اللاتينية على الإمساك بزمام المبادرة نحو الحلول السياسية في القارة، وإنجاز هذا الاتفاق بعيداً عن الأيادي الأمريكية التي كانت تحاول حتى الأمس القريب احتكار الملف واستغلاله في سياق تنفيذ أجندتها في دول أمريكا الجنوبية، كما أن من شأن الاتفاق أن يفتح الباب أمام اتفاقات مماثلة من المحتمل أن تعقدها الحكومة الكولومبية مع قوى مسلحة أخرى، كـ«جيش التحرير الوطني»، الذي يعتبر ثاني مجموعة مسلحة مقاتلة بعد «فارك».