«دولة الرفاه» حاجة متجددة
ثناء الحرب الباردة شهدت الدول الرأسمالية تغييرات كثيرة في بنيتها الاقتصادية ولم تنج دولة من هذه التغييرات بما في ذلك الولايات المتحدة الداعم الأول لسياسة الحرية المطلقة لاقتصاد السوق، وإذا كانت التغييرات الاقتصادية في الولايات المتحدة أقل اتساعاً من غيرها من الدول، إلا أن السلطات الفيدرالية وسلطات الولايات المتحدة اضطرت إلى تسيير عدد غير قليل من مرافق الخدمات، إضافة إلى سن قوانين لتعزيز عمل الضمان الاجتماعي والصحي، وهكذا لم تتبن الولايات المتحدة مفهوم دولة الرفاه، ولكنها اقتربت منه في تلك الحقبة.
أما في أوروبا فإن الأمور سارت أبعد من ذلك وخصوصاً في عقدي الستينات والثمانينات، فنشأت دول «اشتراكية ديمقراطية» كما أن فرنسا وبريطانيا وألمانيا ودول أوروبية أخرى اتخذت سلسلة من التغييرات التي أفضت إلى قيام «دولة الرفاه» التي أصبحت سمة ملازمة للدول الأوروبية.
والإجراءات التي ينطوي عليها مفهوم «دولة الرفاه» تندرج في إطار واحد أو أكثر من الإجراءات التالية:
1) توسيع تقدمات الضمان الاجتماعي والصحي لكافة المواطنين.
2) احتفاظ الدولة بتسيير المرافق الخدمية الأكثر حيوية مثل الكهرباء والماء والقطارات والنقل الجوي... الخ.
3) تأميم عدد غير قليل من الشركات الصناعية الكبرى، وقيام الدولة بإدارة هذه الشركات التي ما يزال جزء منها في فرنسا وألمانيا وإيطاليا تابعاً للدولة.
4) إنشاء صناديق لدعم المتعطلين عن العمل وتقديم مبالغ لهؤلاء طيلة فترة تعطلهم عن العمل.
5) التوسع في الإنفاق على القطاع التعليمي الرسمي الذي كان مؤهلاً لمنافسة التعليم الخاص.
بعد اختفاء نظام الحرب الباردة وتفكك منظومة الدول الاشتراكية، بدأت مسيرة معاكسة من التحولات، وراح كثير من المحللين والخبراء الاقتصاديين ينسبون إلى دولة الرفاه مثالب كثيرة أبرزها إضعاف معدلات النمو وحصول الأزمات الاقتصادية، وسادت في عقد التسعينات موجة من الإصلاحات الهيكلية التي استهدفت تقويض دولة الرفاه، إذ تم إعادة الشركات المؤممة إلى القطاع الخاص، كما سمح للقطاع الخاص بتسيير عدد من المرافق الخدمية، بل إن ملكية بعض هذه المرافق انتقلت إلى القطاع الخاص في بعض البلدان، وغطت موجة الهجوم على دولة الرفاه تحت شعار «اقتصاد السوق» كل أنحاء العالم.
لكن تجارب الدول التي طبقت الإصلاحات انعكست في كوارث اقتصادية واجتماعية أدت في دول أميركا اللاتينية إلى انهيارات اقتصادية كان أبرزها انهيار الاقتصاد الأرجنتيني، كما أن الإصلاحات التي حدثت في بريطانيا أدت إلى توترات اجتماعية وسياسية انعكست بانهيار حزب المحافظين وصعود حزب العمال من جديد في عام 1997، وتزامن ذلك مع مراجعة أجراها البنك الدولي الذي أصدر وثيقة تاريخية هامة حملت عنوان «الدولة في عالم متغير» شكلت هجوماً مضاداً سفّه التطرف في الرهان على آلية السوق، ومنذ ذلك الوقت بدأت موجة الليبرالية الجديدة بالانحسار، ومثلما كانت بريطانيا بداية انطلاق الليبرالية الجديدة، كانت هي أول من راجع هذا النهج وقد عبرت هذه المراجعة عن نفسها في الكتاب الذي أصدره أحد منظري حزب العمال «طوني جودنز» الذي حمل عنوان «الطريق الثالث» وانتقلت موجة التغيرات إلى دول أميركا اللاتينية، حيث يسيطر اليسار الآن على الحكم في خمس من هذه الدول التي بدأت من جديد تنفيذ موجة جديدة من التأميم وتوسيع التقدمات الاجتماعية بما يسمح بعودة دولة الرفاه. ولعل التشيلي التي يحكمها حزب يساري معتدل نموذج يؤكد سرعة عودة دولة الرفاه. في هذا السياق يؤكد عالم الاقتصاد «مانويل ريسكو» الذي درس نماذج التنمية في أرجاء منطقة أميركا اللاتينية أن «التشيلي ليست بعيدة عن إعادة دولة الضمان الاجتماعي. بدأنا نبتعد عن الأسطورة السائدة في تشيلي والقائلة إن السوق قادر على حل كل الأمور».
ونقلت مجلة «نيوز ويك» عن أستاذ في العلوم السياسية من التشيلي قوله «لقد نفذ صبر التشيليين، وهم يدركون اليوم أن هناك ثروات وافرة في هذه البلاد وأنها لا توزع على النحو الذي ينبغي أن توزع وفقاً لـه».
هذا الواقع دفع الحكومة إلى إقرار قوانين جديدة لمساعدة الفقراء حيث ستقوم الدولة بتقديم دفعات إلى العمال وربات الأسر الذين يتلقون أجوراً زهيدة، كما بدأت الحكومة العمل ببرنامج «الحماية الاجتماعية».
هكذا يبدو أن دولة الرفاه باتت ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها بعد أن أظهرت الكوارث التي تسببت بها الليبرالية الجديدة صعوبة التخلي عن دولة الرفاه.
■ حميدي العبد الله