إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

الجاسوس الصهيوني.. واستحقاقات ما بعد السقوط

للمرة الأولى منذ خمسين عاماً يسقط ضابط موساد في يد المخابرات المصرية. طوال السنوات الخمسين الماضية كان من يسقط من الجواسيس هم مجرد عملاء من الكيان مثل عزام عزام، أو أجانب، أو مصريين. ولم يكونوا ضباطاً في جهاز استخبارات العدو الصهيوني.

في تمام الساعة التاسعة من صباح الأحد 12 يونيو، وفي فندق 3 نجوم بوسط القاهرة تم القبض على الضابط الصهيوني الجاسوس بحضور ممثلي النيابة العامة في قضية مكتملة الأركان والأدلة والإجراءات والشكل القانوني.
بداية القصة:
في يوم الجمعة الدامي 28 يناير 2011 وصل إلى القاهرة شخص أجنبي يحمل جواز سفر أوربي (يعرف اللغة العربية بلهجة مشرقية) باعتباره صحفياً، سرعان ما دخل ميدان التحرير. بدأ في تقديم نفسه كصحفي يعمل مراسلاً تلفزيونياً.
تم رصده ومراقبته من لحظة وصوله إلى مطار القاهرة، وجرت عملية متابعة دقيقة ودائمة لكل تحركاته. هو ضابط سابق بفرقة المظليين 101 بجيش الكيان الصهيوني. حارب في يوليو 2006 ضد حزب الله وأحيل إلى التقاعد بسبب إصابته. ثم تم إلحاقه كضابط بجهاز الموساد الصهيوني.
بحوزة الجاسوس ثلاث أجهزة موبايل وثلاث أجهزة كمبيوتر(لاب توب)
قام الجاسوس بتحركات واسعة وتواصل مكثف مع الجماعات المختلفة مركزاً على الشباب من مختلف الاتجاهات السياسية والتحاور معهم. وقدم نفسه كمراسل لقنوات تلفزيونية أجنبية، وأن له صلات بالكثير من القنوات التي يمكنه إلحاق شباب للعمل بها (كنوع من الإغراء).
امتدت تحركاته وصولاً إلى الأزهر، ومن منطلق التظاهر بالثورية والاعجاب بالثورة المصرية أعلن أنه سوف يعتنق الإسلام، وفي هذا السياق أظهر حرصه على معرفة مدى تطور تحركات الاخوان والسلفيين واحتمالات وصولهم إلى الحكم، وهو الأمر الذي يثلج قلوب الجهلاء من هذا التيار.

علام انصب اهتمام الجاسوس؟

كان الجاسوس الذي خرج من مصر وعاد إليها مرات عدة في أثناء الثورة وحتى القبض عليه غاية في النشاط. لكن نشاطه الرئيسي كان أساساً على الأمور التالية:
- العمل على بث الفرقة وإثارة الكراهية بين الشعب والجيش.
- الاهتمام وجمع المعلومات عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، والتوقعات لتوجهات تطورها بسبب الثورة.
- الاهتمام بالأوضاع الدينية، والوجود في كل أماكن التوتر والفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين والدفع باتجاه تسعيرها حيث وجد في القرية التي تم حرق كنيسة بها، وفي المكان نفسه الذي تم فيه إحراق كنيسة أخرى بمدينة امبابة. كما كان دائم الوجود في اعتصام المسيحيين أمام مبنى التلفزيون، وفي اعتصامات وتظاهرات السلفيين أمام مسجد النور بالعباسية بالقاهرة، واعتصامات وتظاهرات المسيحيين أمام مبنى البابوية في القاهرة، وغيرها من الأماكن التي جرت بها أحداث طائفية.
كانت كل تحركاته واتصالاته ولقاءاته مرصودة بشكل كامل ودقيق. سواء بالنسبة لاتصالات البريد الالكتروني حيث تم اختراق أجهزة الكمبيوتر الخاصة به، أو بالنسبة لمراقبة وتسجيل اتصالاته التلفونية بأجهزة الموبايل التي كانت بحوزته، أو بالنسبة للقاءاته واتصالاته الشخصية مع كل من التقاهم وحادثهم، حتى حانت اللحظة المناسبة لالقاء القبض عليه.
 
استخلاصات:

لعل أهم ما يمكن استخلاصه من هذا الحدث شديد الأهمية، أن العدو الصهيوني لا يضع أية خطوط حمراء أمام سلوكه حتى مع من تصالحوا معه. وهو يدرك أن حالة العداء بينه وبين مصر وشعبها لا يمكن أن تنهيها مجرد توقيعات على الورق.
كما يعبر هذا الحدث عن القلق الذي يعتري العدو من وحدة الجيش والشعب، وهو الشعار الذي رفعه الثوار لحظة نزول الجيش إلى الشارع باعتباره شريكاً كاملاً في الثورة. ذلك أن العدو يعتبر أن طرفين أساسيين في المعادلة المصرية يعيقان استقرار علاقاته مع مصر. الطرف الأول هو الجيش الذي رفض كل محاولات تغيير عقيدته القتالية: العدو هو «إسرائيل». والطرف الثاني هو الشعب الذي رفض على مدى ثلث قرن التطبيع مع العدو. ولذلك فإن العدو يخشى إزاحة  قوى اللصوص طواغيت المال داخل سلطة الحكم وخارجه، أي الطبقة التي كان يجلس مبارك فوق قمتها، بصرف النظر عن تناقضاتها الثانوية وصراعاتها من أجل الثروة والسلطة دون المساس بطبيعة النظام الاجتماعي ذاته.
إن الاهتمام بافتعال وتسعير العداء بين الشعب والجيش، وتسعير الفتنة الطائفية من المسلمين والمسيحيين، إنما يستهدف منهما طمس التناقض الرئيسي بين القوى الوطنية والشعبية الكادحة من جهة، والقوى الامبريالية والصهيونية وعملائهما المحليين من جهة أخرى. وبالتالي الإبقاء على النظام الاجتماعي وهيمنة الطبقة الرأسمالية العميلة. أي بقاء التبعية والظلم الاجتماعي وانعدام الديمقراطية الحقة، أياً كانت اللافتات المرفوعة، سواء كانت اللافتة الغربية وتبني النموذج الرأسمالي الآفل، أو رفع لافتة النموذج التركي الحليف الرئيسي في منطقتنا للغرب الاستعماري والعدو الصهيوني، أو برفع اللافتة الوهابية المتخلفة العائدة إلى عصر ما قبل الدولة. ولا يلغي تلك النتيجة التصريحات المنافقة المرائية التي يطلقها الاخوان المسلمون والسلفيون عن حرصهم على الجيش وضرورة عودته سريعاً إلى ثكناته واختصار المرحلة الانتقالية، بتطابق في المضمون بالنسبة للنزق والفجاجة التي تبديها قوى يمينية ويسارية جاهلة بالتاريخ والجغرافيا، وبالسياسة والاقتصاد، وتصوراتها البائسة لمستقبل لا يحمل أي خير للشعب. أي أن كل هؤلاء بالوعي أو اللاوعي يؤبدون الواقع الذي ثار الشعب المصري لإنهائه.
لقد انقضى عهد كانت مصر فيه مستباحة، وأهدرت فيه جهود هائلة في التصدي للاختراقات وأعمال التجسس. يؤكد ذلك حديث الرئيس المخلوع للقناة التلفزيونية الثانية للعدو الصهيوني منذ سنوات، ورده على المذيع الذي أثار موضوع الافراج عن الجاسوس «عزام عزام». إذ كان الرد المخزي أن سبب عدم الافراج يعود إلى الضجة الإعلامية التي يثيرها الإسرائيليون بشأنه، والتي لولاها لتم الافراج عنه مثلما تم الافراج عن كثيرين غيره دون ضجة.
الآن ينبغي على القوى الوطنية المصرية العمل دون كلل على الاستحقاقات التي تفرضها المرحلة الجديدة بعد سقوط هذا الجاسوس الهام وغير العادي. أهم تلك الاستحقاقات هي تمتين وحدة الشعب مع الجيش، الذي يتحتم أن يظل طرفاً أصيلاً في المعادلة السياسية المصرية، وضرورة تمتين الوحدة الوطنية والمواطنة المتساوية على قاعدة دولة غير دينية والسير قدماً على طريق التحرر الوطني والعدل الاجتماعي. ويتكامل مع ذلك إزالة البيئة الحاضنة للتجسس على الوطن التي أفرزها ونماها النظام القديم.
إن الأيام القادمة سوف تحمل مفاجآت كثيرة نتيجة لهذا الحدث الكبير. مفاجآت تكشف عنها مراقبة تحركات واتصالات الجاسوس. كما ستحمل تداعيات سياسية في العلاقات مع العدو.
 
الاثنين 13 يونيو 2011