ابراهيم البدراوي ابراهيم البدراوي

من لا يملك خبزه لا يملك إرادته..

لا يمر عام دون أن نفاجأ بأن احتياطي القمح المخصص للخبز البلدي (خبز الفقراء) لا يكفي سوى لفترة وجيزة.

الخبز في مصر يسمى (عيش)، وهذا الاشتقاق اللغوي للتسمية يحمل دلالات عميقة، إذ أن الخبز هو عماد الحياة ومصدر العيش الأساسي للمواطن المصري.
طالعتنا الصحف أن وزارة التضامن الاجتماعي (وهي وزارة مستحدثة استحوذت على اختصاصات وزارة التموين)، أعلنت أن «الأرصدة الإستراتيجية المتوافرة من الأقماح لإنتاج الخبز البلدي المدعم... متوافرة لمدة شهرين ونصف الشهر»، وأن كميات متعاقد على استيرادها سوف تصل إلى الموانئ المصرية خلال الشهرين الحالي والقادم.
وهكذا عودتنا حكوماتنا «غير الرشيدة» على الرد الفوري المدعوم بأرقام ما، بأن جهودها لا توفق في حل مشكلاتنا.
مشكلة القمح لا تكمن في المسارعة إلى استيراده كلما قارب مخزونه على النفاذ. ذلك أن الاستيراد محاط بمخاطر جمة بالنسبة لسلعة إستراتيجية مثل القمح، بداية من الضغوط الامبريالية (الأمريكية على وجه الخصوص)، وقد جربناها سابقاً، وحتى احتمالات اضطرابات وحروب في المنطقة – وهذا احتمال كبير الآن – تحول دون وصول القمح إلينا.
كانت مصر تاريخيا هي سلة الغلال للإمبراطورية الرومانية، وظلت هكذا بالنسبة لمنطقتنا ربما حتى المراحل المتأخرة من حكم المماليك ومن بعدهم الأتراك.
كانت الملحمة الهائلة لبناء السد العالي والتي اتسعت إلى تأميم قناة السويس، وما تلى ذلك على طريق التنمية ودعم للاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي، كانت هذه الملحمة تضع في مقدمة أولوياتها توسيع الرقعة الزراعية لتوفير الغذاء للشعب، خصوصا توفير الاكتفاء الذاتي من القمح. وهذا هدف ممكن التحقيق على أرض الواقع.
منذ أكثر من عشرة سنوات أعلنت الحكومة عن «مشروع توشكي» الذي يقوم على استصلاح مساحات واسعة من الأرض وزراعتها، وفي غمار الحملة الدعائية الواسعة التي قامت بها الحكومة «لإنجازاتها التاريخية» مقدما!! في عصر الحرية والديمقراطية واقتصاد السوق، صوروا الأمر كما لو أن كل مشاكلنا خاصة في إنجاز الغذاء قد أصبحت من الماضي. وكما اشتعل الموضوع فجأة، انطفأ فجأة، ولم يعد له ذكر. لقد اكتفت الحكومة بتوفير بنية أساسية بما فيها توصيل المياه (بتكلفة عالية للغاية) لاستصلاح المساحات الأكثر جودة من الأرض التي اشتراها بعض أمراء الخليج والبعض من النخبة المصرية المتنفذة، وأقاموا عليها مزارع حديثة لمحاصيل غير تقليدية مخصصة للتصدير!!
قبل ذلك ترددت أحاديث جادة عن مساحات شاسعة (عشرات الملايين من الأفدنة) تقع على الحدود المصرية السودانية، صالحة للزراعة بجهود استصلاح ضئيلة، وتتوافر لها الموارد المائية الكافية، ويمكن زراعتها بالقمح الذي يكفي احتياجات العالم العربي بأسره. وتردد أنه تم إعداد أفكار أولية لمشروع يقوم السودان بمقتضاه بتقديم غالبية الأرض، وتقدم مصر العمالة الماهرة وجزء من الأرض، وتقدم ليبيا المال. غير أن المشروع لم يبدأ أصلا بحجة أنه سوف يغضب الأمريكيين!!
مؤرخو المرحلتين المملوكية والتركية يذكرون أنه في فترات انخفاض فيضان النيل وعدم كفاية المياه للزراعة، كانت تنتشر المجاعات ويهلك السكان جوعاً، كان الموسرون يشترون مكيال القمح بعشرات الدنانير الذهبية لإنقاذ أسرهم من الموت.
لكن ذلك كان من قرون خلت، لم يكن فيها السد العالي ولا علوم تطوير الإنتاجية الزراعية ومراكز الأبحاث المحترمة في بلادنا ولا وسائط النقل السريع.. الخ. كان الجوع خطر داهم يهدد الشعوب. لكنه لم يعد خطراً الآن بالنسبة لبلدان مثل الصين الشعبية ذات المليار وثلث من السكان، أو الهند ذات الأكثر من مليار نسمة، اللتين حققتا اكتفاءً ذاتياً من الغذاء، وتجاوزا أخطار المجاعات والابتزاز والضغوط السياسية. وتمكنت سورية من تحقيق طفرة زراعية، وفي إنتاج القمح بالذات بما حقق لها اكتفاءً ذاتياً، فتمكنت من الصمود ومواجهة الضغوط الامبريالية.
لكن في عصرنا الزاهر!! لا يواجه الموسرون، أو بالأصح القلة الضئيلة التي تغتصب الثروة والسلطة ما كان الموسرون في سالف الزمان. ففي حفلاتهم الخاصة (الأعراس وأعياد الميلاد.. الخ..) يأتيهم الطعام بالطائرات من مطعم مكسيم الباريسي الشهير، فهم لا يأكلون طعامنا ولا خبزنا، ولا يشربون ماءنا. وحتى لا يسكنون حيث نسكن، إذ أن قصورهم وأحياءهم وربما في المستقبل القريب مدنهم الخاصة، مؤمنة إليكترونياً وتعج بالحراس. إنهم باختصار لا يعيشون حياتنا ولا يأبهون بنا.
قضية القمح بالذات، تمثل بالنسبة لمصر قضية أمن قومي من الدرجة الأولى، وما لم يتحقق إنتاج القمح لسد حاجات الشعب، فإن الأمن القومي المصري سيكون مهدداً بدرجة خطيرة وحادة، ولا يجوز إغماض العين عنها للحظة.
الأزمات التي لاحصر لها– وهي مفردات ومكونات الأزمة الشاملة التي تعيشها البلاد- هي أزمات مصنوعة أنتجتها سياسات عمدية تخدم مصالح قلة ضئيلة تكونت بالنهب الوحشي.
منذ عشرين عاما تقريباً تقرر البدء في إقامة مشروع حكومي كبير لحل مشكلة نقص اللحوم والحد من استيرادها. وتم البدء فعلا بإنشاء مزارع عملاقة لتربية «العجول». غير أن المشروع سرعان ما تم إغلاقه تحت ضغط مستوردي اللحوم من الخارج. وفي ذات الوقت، وحتى الآن يتوالى ضبط كميات كبيرة من اللحوم المستوردة الفاسدة والتي لا تصلح للاستهلاك الآدمي.
منذ عامين تقريباً أثير موضوع استيراد اللحوم من السودان. وتم الاستيراد فعلاً وتحددت أسعار البيع للمستهلك بنصف الأسعار السارية. لكن الكميات الهائلة المستوردة تبخرت من الأسواق بسرعة البرق، ولم نعد نسمع عن استيراد اللحوم من السودان، لتستمر أسعار اللحوم في الصعود الجنوني وبدرجة لا تطاق.
والأنكى، أنه منذ سنوات قليلة تأسس ما يسمي «بورصة الدواجن»، من خلالها يتحكم كبار منتجي الدواجن في الأسعار وسيادة الاحتكار، حيث يهلك صغار المنتجين، ثم تم حظر تربية الدواجن في بيوت الفلاحين بدعوى انتشار أنفلونزا الطيور.
وهكذا ارتفعت أسعار الدواجن بدرجة كبيرة للغاية. انه الاحتكار!!
هكذا تمسك بنا وبخناق الوطن الأزمات والأخطار من كل جانب، نتيجة سياسات بدأت منذ ثلث قرن، واستهدفت إقامة طبقة ضيقة اعتمدت النهب الوحشي وكل الأساليب الإجرامية وغير المشروعة طريقاً وحيداً للثراء، حتى وإن ذهب الوطن والشعب إلى الضياع.