فوضى غزة... فلتان أمني أم تدمير قضية ومجتمع؟

انقضت ثلاثة أشهر على توقيع «اتفاق مكة» العتيد بين حركتي فتح وحماس، وقاربت حكومة «الائتلاف» الفلسطينية، على إنهاء شهرها الثاني، ومازال الحصار الظالم واللاإنساني مفروضاً على الشعب الفلسطيني، على الرغم من بعض «الثغرات» الطفيفة في جدار الممانعة الدولية التي أحدثها تحرك بعض وزراء الحكومة الوليدة.

وإذا كانت الدعوات والتحركات التي انطلقت عبر أكثر من جهة إقليمية ودولية لتسويق «المبادرة العربية»- التي يعمل النظام العربي الرسمي على تقديمها وكأنها «الضربة القاضية» في تعامله مع الكيان الصهيوني! فقد اصطدمت منذ اللحظة الأولى بالرفض الأمريكي المتطابق مع شروط حكومة العدو الصهيونية، الهادفة لتحقيق الاعتراف والتطبيع قبل كل شيء، فإن جهد الدبلوماسية التطبيعية الذي تقوده عواصم «الهرولة»، مستمر على أكثر من صعيد، من أجل تليين مواقف قوى الرفض والممانعة، عبر طرح الخطط والمشاريع السياسية- الأمنية- الاقتصادية تحت عناوين تتراوح مابين «تحسين أداء السلطة عبر تقوية أجهزتها الأمنية» و«تجهيز الأطر السياسية- الحقوقية- الإدارية لترتيب وضع الأراضي الفلسطينية المحتلة فيما لو انهارت السلطة». في ظل هذه الأوضاع، تتصاعد جرائم الاحتلال من اغتيالات واعتقالات، وانتشار الحواجز، وتوسيع المستعمرات، وزيادة عدد الوحدات السكنية في محيط مدينة القدس، وقضم الأراضي ومصادرة الثروات المائية بفعل الجدار العنصري- الاحتلالي، التي يقابلها في الجانب السياسي- المجتمعي الفلسطيني، اضطراب حاد، تكشفه حرب التصريحات الإعلامية بين طرفي الائتلاف، وتُعريه «أخلاقياً» عذابات وآلام الآلاف من أبناء الشعب، ضحايا الصراعات الدموية «الفصائلية-الجهوية-العشائرية»، التي لاتخرج عن كونها، الشكل الأكثر قبحاً في إدارة التعارضات- حتى لانقول التناقضات- السياسية بين الفريقين المتخاصمين.

على مدى الأسبوعين الأخيرين، شهدت أجهزة الإعلام صراعاً متجدداً بين قطبي الأزمة، عكس حدته، ارتفاع منسوب الاحتقان لدى الحركتين، ووصوله لحافة الانفجار الكارثي. فالتصريحات التي تناوب عليها كل من جمال نزال أحد الناطقين باسم فتح وأيمن طه ممثل حركة حماس في مكتب التنسيق المشترك بين الحركتين، أشارت إلى تأزم جديد في العلاقة بين الطرفين، التي حاول محمود عباس في زيارته لمدينة غزة واجتماعه مع اسماعيل هنية العمل على معالجتها، خاصة مع تقديم وزير الداخلية هاني القواسمي استقالته، التي كشفت عن حالة التهميش التي يعيشها الوزير، نتيجة تحكم كبار ضباط الوزارة بحركتها وولاء الأجهزة الأمنية، نتيجة عقلية التفرد والإقصاء الانقلابية المهيمنة عليها. وهو ماعكسته رسالة مدير عام جهاز الأمن الوقائي العميد يوسف عيسى الموجهة لرئيس الوزراء، التي تضمنت اتهامات خطيرة لحركة حماس في سياق الرد على مااتهمت به عدة قيادات حمساوية «الجهاز» بوقوفه خلف ظاهرة الفلتان الأمني (لقد قامت عناصر حماس بسرقة سلاح ومركبات السلطة بعد مداهمة مقارها وخطف المواطنين وزرع العبوات على أبواب البيوت وتفجيرها ليلاً). لقد أدت الاشتباكات المتكررة في الأيام الأخيرة، لسقوط العشرات بين قتيل وجريح، مما يشير إلى فشل جهود «الرئاستين» والقوى الفلسطينية، والوفد الأمني المصري ،في تبريد رؤوس المتقاتلين، التي لم تؤثر عليها أيضاً، حركة وزير الداخلية الاحتجاجية (الاستقالة)، رغم ماشهدته من «أحجيات» التأكيد والنفي لعدة أيام. وهو الذي شارك باجتماعات عباس وهنية، التي أسفرت عن الاتفاق على تنفيذ «الخطة الأمنية» ذات المراحل المتعددة، التي حملت للبعض- المتوهم بأن جذر الأزمة أمني فقط- الأحلام بالطمأنينة، خاصة مع نزول مئات العناصر الرسمية للشوارع في مدينة غزة، ظناً منهم بأن مايحصل ماهو إلاّ المراحل الأولى لتنفيذ الخطة. لكن تصريحات وزير الداخلية، أكدت على أن مايجري (ليس تنفيذاً للخطة، بقدر ماهو مبادرة من ضباط كبار. إنه اجتهاد منهم، ولم يكن بموافقتي!). وهذا ماأكده القيادي أيمن طه (لا اتفاق على البدء بالتطبيق، ولكن تهيئة الأجواء لتطبيقها قريباً). أما وزير الإعلام مصطفى البرغوثي فقد أعطى تقييماً آخر للوضع (فعلياً بدأ تنفيذ الخطة الأمنية، إلاّ أن هناك بعض الجهات التي لايروق لها نجاح الخطة). التصريحات الملتبسة، المتناقضة أحياناً، كانت تنقل للمواطن الفلسطيني، وللمراقب الإعلامي، صورة الاضطراب الذي يحكم العلاقة بين الأجهزة والقوة التنفيذية، الذي هو انعكاس موضوعي للعلاقة المتوترة بين الحركتين. التي تسعى العديد من القوى السياسية والمجتمعية عبر النقاشات الدائرة مع قيادتيهما، لتنفيس الاحتقان، ولإعادتهما إلى طاولة الحوار، وللوقوف على أسباب الأزمة الجديدة، من أجل معالجتها. وهو ماوفر الأجواء لتوقيع الاتفاق الجديد بين الحركتين، المتضمن (سحب جميع القوات المنتشرة ومسلحي الطرفين من شوارع مدن وبلدات قطاع غزة).

لم يصمد الاتفاق سوى بضع ساعات، لتنفجر واحدة من أبشع وأقسى المواجهات بين الحركتين، منذ التوصل في «مكة» لوقف نزيف الدم.عمليات إطلاق الرصاص والقذائف الصاروخية، واختطاف العشرات، ترافقت مع تصفيات إجرامية وحشية (اغتيال القيادي في كتائب شهداء الأقصى بهاء أبو جراد، وإعدام الصحافي في جريدة فلسطين سليمان عشي بأسلوب فرق المستعربين الصهيونية)، أعاد وضع غزة على فوهة البركان، مما استدعى تحركاً من قيادة الحركتين، والوفد الأمني المصري، لإلزام المتقاتلين بوقف العبث بأمن المواطنين، الذين يعيشون حالة الترقب من عدوان عسكري صهيوني يستهدف القطاع. وهو ما أثمر عن توقيع اتفاق جديد، يتوقع المراقبون أن لايصمد كثيراً، يوقف الاشتباكات، وينهي كل أشكال التوتر الإعلامي، ويطالب الجميع بسحب العناصر المسلحة من الشوارع، وتحويل كل من تثبت إدانته للقضاء.

إن التعبيرات العنيفة- الدموية التي عصفت بالنسيج المجتمعي الفلسطيني على مدى عدة أشهر، دقت جرس الخطر في وجه الجميع. فالصراعات الدموية بين العناصر المسلحة- تتخفى أحياناً خلف الاشتباكات التي تدور مع العائلات، وكمثال على ذلك، ماحصل في محافظة خان يونس مع عائلة (كوارع) التي سقط فيها على مدى عام 12 قتيلاً و70 جريحاً- بدأت تحرق بنيرانها السلم الأهلي- المجتمعي، الذي سيتطاير شراره المدمر، ليجلب الخراب، ويهيل التراب على المشروع الوطني، الذي قدَّم مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والأسرى، أعز مايملكون لتحقيق أهدافه التحررية.

إن ظاهرة الفلتان الأمني لم تكن بأي وقت «نبتاً شيطانياً»، بمقدار ماكانت التعبير الأكثر عنفاً وبؤساً، لمحاولة البعض مصادرة التاريخ، وإقصاء الآخر، والتفرد بالراهن والمستقبل، الذي يتكيف مع المشروع- البرنامج الذاتي، الذي يعتقد أصحابه بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، والحلول الكاملة والناجزة. إن إشاعة ثقافة وطنية، ديمقراطية، تتقبل الآخر- الوطني-، تحاوره على قاعدة المشروع الكفاحي التحرري، وتطور معه، برنامج العمل المشترك الجماعي، من أجل تصليب بنية المجتمع وصموده، كفيلة بسحب فتيل الأزمة، وببناء- إذا توفر الالتزام الوطني والأخلاقي- الرافعة الحقيقية لانتشال الوضع الفلسطيني كله من المأزق.