عن مالتوس، هنتنغتون وماركس
مالتوس هو عالم سكان واقتصاد انكليزي عاش في القرن التاسع عشر وهو يعتبر من المتشائمين حول مستقبل البشرية، حتى عبر عن تشاؤمه باستسهال أعمال الإبادة والحروب، اشتهر بنظريته التشاؤمية المعروفة والتي ترى أن تكاثر السكان في العالم يتم عبر متوالية هندسية، فيما زيادة خيرات الطبيعة تكون إما ثابتة أو بمتوالية حسابية، وبالتالي يتولد فرق بين ما ينتجه الإنسان خلال تفاعله مع الطبيعة وبين التكاثر الطبيعي للجنس البشري، الأمر الذي يؤدي إلى المجاعة، وقد وضع مالتوس حلولاً للمعضلة التي توصل إليها عبر حروب الإبادة الجماعية أو نشر الأوبئة المعدية أو أية وسيلة أخرى. وفي عصرنا هذا يمكن القول حرب نووية. لقد كان مالتوس مبغضاً للبشرية ومستعداً بدل أن يعيد عملية التوزيع للخيرات المادية بالعدل بين البشر أن يقتل الفقراء، كي يبقى الأغنياء في نعيمهم.
صاموئيل هنتغتون، سلبي آخر ظهر في القرن العشرين وفي أواخره، ليضع بدلاً من الصراع الطبقي كمفهوم اجتماعي نظرية تملأ الفراغ الذي تخلف بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، فقال بصدام الحضارات وميز بين الحضارات المختلفة معلياً شأن اليهود والبروتستانتية (على غرار فيبر)، وواضعاً الإسلام والحضارة الإسلامية كنقيض لهما، فيما يمكن اللقاء المؤقت مع الحضارة الصينية.
نظرية صدام الحضارات ليست سوى نموذج مفتعل لخلق عدو يحافظ على تماسك المجتمع الرأسمالي الغربي بعد الانهيار الاشتراكي، وهي بالتالي نظرية غائية، لم تستدل من الواقع على صحتها بقدر ما أسقطت نفسها على الواقع لتبرير عدوانية النيوليبرالية، إنها الآن نظرية بوش والمحافظين الجدد.
تصدى ماركس لمالتوس وأثبت علمياً وليس عبر محاججة منطقية أن خيرات العالم مرهونة بنشاط الإنسان نفسه وتطور أدوات الإنتاج بمعنى (التكنولوجيا، العلم، البشر)، وبالتالي فالمشكلة ليست بمحدودية الموارد الطبيعية، بل في استحواذ طبقة معينة على هذه الموارد واحتكارها للثروة الاجتماعية بما يخلق تفاوتاً واسعاً في توزيع هذه الثروة الاجتماعية، لقد هزم تفاؤل ماركس تشاؤم مالتوس، فالتطور التكنولوجي اليوم جعل من موارد العالم واكتشافها أمراً غير محدود، وبالتالي سقطت نظرية مالتوس علمياً، لكن وبشكل متآمر طبقتها وتطبقها الرأسماليات العالمية وخصوصاً الامبريالية الأمريكية.
لسنا في معرض نقد ونقض نظرية هنتنغتون لأنها ليست سوى افتراضات مازالت تحتاج إلى برهان، وهي قائمة على نزوع أنثروبولوجي دارويني، أكثر منها نظرية يعززها العلم.
لكن ما سقناه سابقاً ليس إلا تحت تأثير حرب الجوع الجديدة التي يقودها المركز الرأسمالي العالمي، كي يتخلص من أزماته المتلاحقة والتي هي نتيجة تكدس ثرواته وفائض إنتاجه العالي، فيما كان ذلك بسبب إفقار البلدان المتخلفة، وتعميق تبعيتها لأنماطه الاستهلاكية، بحيث لم تعد أسواق هذه البلدان ولا الطبقات الكمبرادورية المحلية قادرة على استيعاب شروط التبادل العالمي في ظل العولمة وحرية السوق.
إننا أمام «نيو مالتوسية» عملية تحاول أن تخلق من نظرية صراع الحضارات غطاءً ايدولوجياً لها، في ظل غياب وتحلل الأدوات التنظيمية العملية لفكر يواجه العولمة الأمريكية وتغولها، وهي بالتالي مستعدة لارتكاب فظائع تفوق هيروشيما وناغازاكي لأجل الحفاظ على تدفق العوائد والأرباح إلى خزائنها.
إن من يقود العالم الآن ليس سياسيون لهم أفكارهم وقيمهم حتى تلك المنطلقة من آدم سميث وجون ستيوارت ميل، إنها الشركات الغربية الاحتكارية العابرة للجنسيات والتي خصخصت حتى الجيوش.
إن أزمة الغذاء التي ينذر بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ويقرع طبولها بالإنابة عن هذه الشركات مأجور مثل بان كي مون، ليست سوى نتاج الاستخدام غير الرشيد للموارد الغذائية، سواء كان ذلك عبر محاولات غير مضمونة لاستخراج وقود صديق للبيئة، أو عبر تخزين الفوائض، وتقليص العرض، وهما نقطتان باتتا أقل أهمية من لعبة رأس المال الطفيلي الذي يحاول التهويل من الأزمة ليرفع الأسعار ويزيد من أرباحه.
إن المضاربات في بورصات الغذاء العالمي هي التي تطيّر الأسعار وليس عملية التخزين أو تجارب صناعات الوقود، تماماً كما المضاربات في سوق النفط العالمية، وكل ذلك لأجل تعويض الاقتصاد الأمريكي عن خسائره في حربه المسعورة في العراق وأفغانستان وغيرها إضافة إلى مشاريع الحروب المنتظرة.
ما يجري الآن يجب أن يعيد الاعتبار لماركس ومفهوم الصراع الطبقي على المستويين العالمي والمحلي، كما يجب أن يعيد الاعتبار لماركس المناضل الذي لا يرى قيمة لأية فكرة دون أن تصبح قوة مادية بالممارسة، بمعنى دون انتظام فقراء العالم ضد التغول العولمي الأمريكي، وضد نسخته المحلية، أي الطبقات الكمبرادورية. فالعالم تتسع فيه الفجوة بين دول فقيرة ودول غنية، كما تتسع الفجوة بين فقراء كل بلد وأغنيائه.
آن الأوان لأممية خامسة تنفض عن نفسها الشعور بهزيمة النموذج السابق للاشتراكية، آن الأوان لانتظام فقراء العالم في عملية نضالية ضد حروب الشركات الاحتكارية وسياساتها التجويعية لفقراء العالم.
ارفضوا المساعدات الغذائية وطالبوا بحقكم في حرية طريق التنمية المتوازنة التي لا تنمي كروش الأغنياء وتضمر أمعاء الفقراء الخاوية.
المصدر: اليسار المصري