اغتيال مدينة القدس!
عادت معركة الدفاع عن عروبة القدس تتصدر الأنباء، لأن مايحصل للمدينة ومحيطها من عمليات تهويد لايقل بوقائعه ونتائجه عما تفعله آلة العدوان الصهيونية، التي تمارس وحشيتها المتنقلة من مخيم «البريج» حيث المجزرة الوحشية التي أحدثها سقوط القنبلة الفراغية التدميرية على منزل أحد قادة حركة الجهاد الاسلامي، إلى المذابح اليومية في رفح وجباليا وبيت لاهيا وخان يونس وجنين وبيت لحم ونابلس.
وإذا كانت الدماء والأشلاء هي التي ترسم لوحة الأوضاع في تلك المدن والمخيمات، فإن ماتشهده القدس يؤكد خطورة وكارثية سياسة «التدمير الهادئ» للبيوت والأحياء والمواقع العربية في المدينة ومحيطها. فالنداءات الأخيرة التي أطلقتها «الجبهة الإسلامية المسيحية للدفاع عن القدس والمقدسات» و«مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية» عبّرت عن تفجر مشاعر الغضب ليس فقط في وجه مخططات التهويد الصهيونية، بل تجاه حالة الصمت المريب الذي يلف الواقع العربي والإسلامي والدولي وهو يرى ماتقوم به حكومة الاحتلال وعصابات المستعمرين.
جاء إعلان بلدية القدس الصهيونية مؤخراً عن الشروع في بناء أكثر من ألف وحدة سكنية داخل المستعمرات المحيطة بالمدينة، ليلقي المزيد من الأضواء على عمليات التوسع المستمرة والمتسارعة في البناء في جميع أجزاء المدينة. وقد أكد الدكتور حسن خاطر والشيخ تيسير التميمي والمطران عطا الله حنا أعضاء هيئة رئاسة الجبهة الاسلامية المسيحية في مؤتمر صحفي عقدوه على خطورة الموقف. وأشاروا إلى (أن القدس تشهد ومنذ انتهاء مؤتمر أنابولس أكبر هجمة استيطانية منذ احتلالها عام 1967) وهو مايتنافى مع- رهانات البعض- على تحقيق وهم «تجميد الاستيطان» كما تراءى لهم في سراب نتائج المؤتمر العتيد. يقول الدكتور حسن خاطر الأمين العام للجبهة (خلال هذه الفترة الوجيزة تم الاعلان عن إقامة أكثر من عشرين ألف وحدة استيطانية، تقدر مساحتها الاجمالية بأكثر من مليوني متر مربع، وذلك في كل من جبل أبو غنيم وجبل المكبر وجنوب القدس بالقرب من الولجة ومستوطنة جيلو ومستوطنة تل بيوت، ومستوطنة معالي أدوميم، ورأس العامود، والشيخ جراح وسلوان ووادي حلوة، وشمال القدس بالقرب من مطار قلنديا). إن هذه الهجمة المستمرة لبناء المستعمرات ترتبط بمخطط هدم المباني العربية وهو ما أكده تقرير الجبهة (إن ازدياد الاستيطان يرتبط بارتفاع وتيرة هدم المنازل العربية في المدينة، بمعدل 97 مبنى في العام الواحد ... لقد تم في العام الماضي هدم وتدمير أكثر من 140 مسكناً فلسطينياً في المدينة تبلغ مساحتها 9946 متراً مربع، وتتجاوز عدد غرفها 373 غرفة، إضافة الى 43 منشأة أخرى كمخازن ومزارع وغيرها). وفي هذا السياق كشفت مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الاسلامية وبالصور الفوتوغرافية قيام المؤسسة الاسرائيلية بحفر نفق جديد ملاصق للجدار الغربي للمسجد الاقصى يمتد مسافة 200 متر، يبدأ من أيسر ساحة البراق متجهاً الى داخل البلدة القديمة ماراً تحت البيوت المقدسية. كما أكدت المؤسسة أيضا من خلال رصدها المتواصل والدقيق، ان هذا النفق والحفريات الاسرائيلية تشكل خطراً كبيراً على المسجد الأقصى وتهدد عشرات بيوت أهل القدس في البلدة القديمة بالتهدم والانهيار.
وجاء كشف مؤسسة الأقصى بعد رصد متواصل وتوثيق لما تقوم به المؤسسة الإسرائيلية من حفريات في محيط المسجد الأقصى القريب، حيث أكدت المؤسسة ان هذا النفق هو عبارة عن عدة انفاق متشابكة تحت الأرض، وبعضها يعتبر فراغات أرضية لأبنية إسلامية من العهود الإسلامية المتعاقبة.
لم تتوقف إجراءات العدو في التوسع عند تلك الحدود، بل تعدتها إلى وضع المخططات لبناء أكبر كنيس يهودي في العالم، لاستدرار عطف وتضامن اليهود، انسجاماً مع خطة عمل الحركة الصهيونية في استغلال المشاعر الدينية لديهم في سبيل توظيفها لخدمة المشروع الاحتلالي الاستعماري. وسيبنى هذا الكنيس مكان مقر الهيئة الإسلامية العليا والمدرسة التنكزية المطلة على حائط البراق. ولهذا فإن ماكشفه المخطط الحكومي لشكل مدينة القدس المحتلة، وخاصة البلدة القديمة خلال السنوات الست المقبلة، يعزز سيطرة الكيان الصهيوني عليها وتهويدها ويمنع تقسيمها أو أن تكون عاصمة «الدولة الفلسطينية» العتيدة! فالقدس التي يخططون لها هي «قدس يهودية»- كما يقول الدكتور حسن خاطر- لأن المخطط الصهيوني يوضح بالصور والدراسات التفصيلية مشروع «واجهة القدس» لإنهاض مكانة «الحوض التاريخي» في المدينة- الحوض المقدس بحسب المصطلحات الصهيونية المتداولة- الممتد من باب المغاربة جنوب المدينة الى منطقة وادي الجوز شمالها، بتكلفة مالية تُقَدر بأكثر من 400 مليون دولار، بهدف تغيير شكل وملامح المدينة من خلال بناء الهيكل المزعوم.
في ظل هذه التطورات المتعاقبة، تدور مماحكات لفظية علنية بين أولمرت وليفني من جهة وعباس وقريع وعريقات من جهة أخرى، تتعلق بأجندة اللقاءات- يسميها الطرفان تضليلاً ... مفاوضات- وهل تكون مدينة القدس في البنود الأولى أم يتم ترحيل النقاش حولها إلى المرحلة النهائية من المباحثات! إن خطورة الاستمرار في هذه اللقاءات العبثية تتوضح من خلال فتح مسار جديد للمفاوضات السرية- حسب صحيفة هآرتس- يديره الوزير الصهيوني حاييم رامون مع رجل الأعمال محمد رشيد «خالد سلام» المعروف بصفقاته المشبوهة- للتذكير فقط، دوره السري بالتنازلات المذلة التي لحقت بالمقاتلين المحاصرين في كنيسة المهد- وهو مادفع بصائب عريقات لنفي الخبر (لم يتم تخويل رشيد من قبل أية جهة رسمية لإجراء اتصالات مع «إسرائيل»).
أمام هذا الوضع الكارثي الذي تعاني منه مدينة القدس كما باقي الأراضي المحتلة، فإن مجابهة مليارات الدولارات المرصودة لتوسيع المستعمرات واستكمال عمليات التهويد، والمدعومة بمواقف العديد من دول العالم (أمريكا وأوروبا) التي تبرر للعالم كل التغيير الحاصل على الأرض، تتطلب كما يقول الدكتور خاطر (تدخلاً عربياً وإسلامياً عاجلاً لوقف هذه الهجمة التي فتحت أبواب التهويد على مصراعيها، لأن معركة القدس هي معركة الأمة بكاملها، فلم يعد بالإمكان مواجهة التهويد المستمر بالاعتصامات والبيانات والشجب والاستنكار). وهذا ماأكده المطران عطا الله حنا (إن مكانة القدس الدينية أكبر من أن تطرح للتفاوض، وأنها مدينة عربية مقدسة ويجب أن تعاد الى أهلها كما هي ودون مساس بمكانتها ورمزيتها الدينية والوطنية).
إن مدينة القدس تتعرض لعملية اغتيال مادي ومعنوي، منذ أن قرر البعض تحويلها- كما الوطن- إلى سلعة قابلة للتفاوض وللتنازل. إن موقفاً وطنياً موحداً يضع معركة الدفاع عن عروبة القدس في مقدمة أهدافه، أصبح ضرورة ملحة ومباشرة، من حيث تصعيد عمليات المواجهة المدنية والمسلحة مع المستعمرين، والعمل على تحريك أوسع رأي عام شعبي، محلي وإقليمي وعالمي ضاغط ، للحفاظ على المدينة، المقدسة عند مليارات من البشر.