حين تعطس الرأسمالية الأمريكية
خاص قاسيون
من المؤكد أن أغلبيتنا الساحقة ليست من أصحاب الأسهم والسندات، بل إن بعضنا، وهو محق بذلك، لا يعير انتباه لمثل هذه الكلمات التي تبدو بالنسبة له جوفاء لا مدلول لها في حياته اليومية. وبالتالي فهو يجد نفسه غير معني بالأزمة المالية التي تمر بها أسواق المال، مع ذلك فإن جميعنا واقع، بصورةٍ أو بأخرى، تحت تأثيرها خاصة ًفي زمن العولمة وترابط الاقتصاديات بعضها ببعض، وفي وقتٍ يعُمل فيه على تحويل الاقتصاد السوري إلى اقتصاد السوق، لكن، والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، يتم التأكيد على أنه سيتم الإبقاء على مهامه الاجتماعية.
بداية تلك الأزمة كانت عندما لاحت الصيف الماضي في الولايات المتحدة بوادر أزمة القروض العقارية، أي الممنوحة دون ضمانات كافية ولمقترضين سيئي السجل الائتماني، ثم ظهرت أعراضها في خسائر مالية فادحة تكبدتها البنوك الكبرى مثل (سيتي كروب وميريل لانش) وبلغت ما يزيد على عشرة مليارات دولار، فانتابت أسواق المال حالة من القلق سرعان ما تجسدت في انحدار البورصات خاصة وأن كل المؤشرات الاقتصادية الأمريكية تنذر بالخطر. فمعدل البطالة على أعلى مستوى له منذ سنوات، وثقة المستهلكين بتراجع مستمر، ومؤشرات البناء العقاري ورخص البناء الجديدة على أدنى مستوى لها منذ 27 سنة، كما أن أرباح الشركات تأتي أدنى من المتوقع، وهناك أيضاً تأخير كبير في تسديد أرصدة بطاقات الائتمان.
لطالما كان هذا غيض من فيض طبيعة النظام الرأسمالي، واليوم إليكم المزيد مما نشهده من طبيعة هذا النظام: الدولار يترنح، مليارات الدولارات تتبخر في ثوانٍ من أسواق المال الدولية والعربية، أسعار النفط تسقط من علياء المائة دولار، وموجة غلاء جامح، أنباء عن ركود أو حتى كساد عالمي محتمل.. فهل أصيبت الرأسمالية بمسٍ من الجنون!؟ خرجت الولايات المتحدة الأمريكية، أمّ الرأسمالية ، في نهاية الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة اقتصادية في العالم بحجم إنتاج بلغ أكثر من ثلاثة عشر تريليون دولار وبعملة خضراء تسيطر على أكثر من 60 بالمائة من الاحتياطات الدولية وعلى القسم الأكبر من الصفقات التجارية في العالم ليصبح الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي باختصار قاطرة الاقتصاد العالمي.
ثمة من يقول إن الاقتصاد العالمي يدفع ضريبة ارتباطه العضوي بهذه القاطرة الرأسمالية. إذ أن هذا الاقتصاد، الذي تغطيه قوة عسكرية فريدة من نوعها في تاريخ الإمبراطوريات، يتحكم بمؤسسات مالية دولية ما كان لها أن تنشأ إلا لتسير في ركاب البيت الأبيض وهي تحديداً صندوق النقد والبنك الدوليين. ومع تسارع وتيرة العولمة تسارعت أيضاً وتيرة معاناة الاقتصاد العالمي جراء ما بات يُعرف بـ( تصدير الولايات المتحدة لمشكلاتها الاقتصادية الداخلية للعالم الخارجي). وآخر مثال على ذلك كان حين تحولت معضلة تهاوي الدولار وأزمة القروض العقارية الأمريكية من أزمة داخلية أمريكية إلى أزمة نقدية عالمية.
حين يتحدث أنصار الليبرالية ومشجعو النظام الرأسمالي عن العولمة فإنهم يركزون على أنها ساعدت في نمو الاقتصاديات الناشئة، كما ساعدت على سبيل المثال في ظهور البرازيل كثامن اقتصاد في العالم، وفي ظهور الصين والهند كدول صناعية كبرى، إلا أنهم يتجاهلون أن العولمة أدت أيضاً إلى ترابط النظام المالي العالمي بطريقة لم يشهدها العالم منذ ظهور النظام الرأسمالي. فترابط النظام المصرفي بهذا الشكل جعل جميع المصارف في العالم متصلة ببعضها، وهو ما يظهر في خطوط الائتمان ما بين المصارف من الشرق الأوسط والأدنى إلى أوروبا وإفريقية والأمريكيتين واستراليا. لذلك فإن أي هزة مالية في الولايات المتحدة ستؤدي إلى زعزعة الوضع المالي وبالتالي الاقتصاد العالمي.
ويبدو أن القانون الفيزيائي القائل بأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد في الاتجاه، قد صار أيضاً قانوناً اقتصادياً في ظل عولمة الاقتصاد. والمثال التالي خير دليل: تؤدي أموال الدعم الهائلة التي يقدمها الأمريكيون لمزارعيهم إلى جعل الاستثمار في الزراعة غير مربح للعديد من الدول الأخرى وذلك لصعوبة المنافسة في الأسواق، وهكذا فان تراجع الاستثمارات في الزراعة خارج أمريكا يعود الآن ليؤذي المستهلكين في أمريكا في شكل ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقص الامتدادات من المنتجات الزراعية.
كما أدت فاتورة الحرب التي شنتها إدارة بوش وتشيني، بذريعة مكافحة الإرهاب، على أفغانستان والعراق إلى تقلص الإنفاق الاستهلاكي المحلي الأمريكي الذي يبلغ حجمه أكثر من أربعة عشر تريليون دولار، ما أدى بدوره وبمساعدة عوامل أخرى في مقدمتها انفجار فقاعة العقارات الأمريكية إلى ركود الاقتصاد الأمريكي الذي تحول خلال فترة حكم بوش من عهد الفوائض المالية القياسية إلى عهد العجز المالي التاريخي. ولكن ماذا يعني الركود الاقتصادي أو الكساد؟
الركود الاقتصادي في أبسط معانيه يعني تراجع إنتاج المجتمع من السلع والخدمات وهي ظاهرة قد يؤدي تفاقمها إلى انفجار معدلات البطالة وتفشي الفقر، وقد يتحول الأمر إلى كساد مثل الكساد الكبير الذي شهده العالم في عشرينيات القرن الماضي عندما انهارت بورصة (وول ستريت) وأغلقت المصانع وتشرد الملايين في الشوارع. واليوم يأتي قرار البنك المركزي الأمريكي بتخفيض سعر الفائدة بنسبة 75 بالمائة وهو أكبر تخفيض منذ أربع وعشرين سنة ليؤكد وصول الاقتصاد الأمريكي إلى مرحلة الركود. وهو ما يدفع للتساؤل عن مدى تأثير هذا الركود على اقتصاديات البلدان الأخرى، إذ أنه في كل مرة يعطس الاقتصاد الأمريكي، فإن الاقتصاد العالمي كله يتأثر وتنتقل إليه العدوى.
(..) ومادمنا نتحدث عن العطس.. أي المرض وبالتالي البحث عن الدواء أختم بالمثال التالي: أدت القفزات التي حققها النظام الرأسمالي من نظام رأسمالي استعماري حر مروراً بنظام رأسمالي إمبريالي احتكاري وصولاً اليوم إلى «الرأسمالية العولمية»، إلى تشكل شركات عملاقة عابرة للحدود ومتعددة الجنسيات؛ كـ«المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية» التي كرست الاحتكار العالمي وتحكمت بالأسعار من خلال «البراءات»، أي حقوق الملكية الفكرية، وفي مقدمتها احتكار شركات الدواء لكل جديد من الأدوية بناء على براءات تعطيها المنظمة المذكورة. وبهذا أصبح بمقدورها التحكم بسعر الدواء بما يصل إلى ثلاثين وأربعين ضعفاً عما يمكن أن يكون سعره لو ُسمح بالإنتاج البديل. وكان من نتيجة ذلك تعريض حياة عشرات الملايين من فقراء العالم للموت بسبب عدم قدرتهم على شراء الدواء وبسبب عدم السماح للإنتاج البديل في بلدان العالم الثالث.
فهنيئاً للبشرية رأسماليتها المعولمة ورحم الله الاقتصاد المحمي والموجه لصالح الفئات الاجتماعية!