وطن للفلسطينيين
أقر مجلس الأمن بحل الدولتين في الشرق الأوسط (أخبار 12/5/2009) وطالب قداسة البابا في «إسرائيل» بوطن للفلسطينيين (أخبار 11/5/2009) وتنادي الأطراف العربية من كل حدب وصوب بالضغط على إسرائيل لإعطاء وطن للفلسطينيين.
يذكرني كل ذلك بعنوان رواية «نقود لماريا»، ربما للأديب الروسي راسبوتين. ماريا كانت تعمل محاسبة في أحدى المؤسسات، وسُرقت لها نقود، فأصبحت مهددة بالعقوبة والطرد، وبدأت الرحلة الشاقة في الحصول على نقود لماريا من أجل إنقاذها.
الوطن هو حق للفلسطينيين، وليس منحة، وهو حق لا يتعلق برضى الإدارة الإسرائيلية، أو عدم رضاها، وهو حق غير مطلوب من الإسرائيليين، وإنما مطلوب من الفلسطينيين أنفسهم بالدرجة الأولى، ومطلوب أيضاً من العرب، إدارات وشعوباً.
عندما تسولت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وطناً، حصلت في ظروف دولية مؤاتية، نسبياً على اتفاقات أوسلو، التي مسخت فيما بعد إلى اتفاقات أشد إذلالاً. واليوم، حيث الإدارة الإسرائيلية اليمينية العنصرية، وحيث الإدارة الأمريكية وحدها في الساحة الدولية، لن يعطى الفلسطينيون سوى الإبادة الجارية حالياً.
كلمة وطن فلسطيني على الصعيد الدولي هي نكتة أكثر منها أي شيء ملموس. ما هو ملموس هو عملية «رصاص مصهور»، والعمليات المشابهة لها، التي جرت قبلاً، أو المبيتة، وهو القتل اليومي في الخليل أو بجوار السور، وهو المداهمات والاعتقالات والاغتيالات، وهو هدم البيوت وتوسيع الاستيطان.
قداسة البابا، في الوقت نفسه الذي يطالب فيه بوطن للفلسطينيين، يدين بشدة معاداة السامية، التي تعني إسرائيلياً معاداة الصهيونية، ويدين بشدة إنكار المحرقة. والإدانة البابوية ليست بابوية فقط، وإنما هي دولية، إدارات العالم عموماً تدين، إذا لم يكن عن طيب خاطر، فقسراً، معاداة السامية، بمعنى معاداة الصهيونية، وإنكار المحرقة.
المحرقة، أيا تكن حقيقتها التاريخية، هي جواز سفر الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وإنكارها يعني إنكار حق الصهيونية الدولية بذلك الاحتلال، ولذا فإن إنكارها أو التشكيك بها يعاقب في أوربا بجريمة لا علاقة لها بها، بجريمة التحريض على الكراهية: ما علاقة الكراهية بتحقيق تاريخي يتناول المحرقة؟ أيضاً معاداة السامية، تعني معاداة الصهيونية أي تعني معاداة إسرائيل، وهذه جريمة تحريض على الكراهية في أوربا تستوجب العقاب، إسرائيل في المنظور الدولي على صعيد أوربا هي كيان مقدس يجب عدم المساس به، مهما فعل. قتل الفلسطينيين، مصادرهم، مصادرة أملاكهم الخاصة، أو أتلافها، هدم بيوتهم، كل ذلك هو دفاع عن النفس ضد «الإرهاب» الفلسطيني. وقداسة البابا لا يستطيع أن يخرج عن المنظور الأوربي.
الوطن الفلسطيني، والحالة هذه، هو في مهب الريح، هو ذكرى، إذا لم يتمسك به الفلسطينيون، هم وحدهم يستطيعون أن يحولوه إلى حقيقة. ولكن ذلك يتطلب النضال.
(م.ت.ف.) كانت وما تزال ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني باعتراف الإدارات العربية، وبكونها عضواً مراقباً في الأمم المتحدة، وهمشت باتفاقات أوسلو، والنضال من أجل الوطني الفلسطيني يقتضي منها العودة إلى دورها الأساسي، إنها الآن أمام خيارين، إما أن تنتهي من التهميش الذي وقعت فيه، وتعود إلى الدور النضالي، أو تغيب تدريجياً عن التاريخ الفلسطيني.
والنضال ليس مجرد تحرش بإسرائيل، تحرش قد يحمل الكوارث للفلسطيني، من جهة، ويسهل مهمة العسكرية الإسرائيلية في التوسع والاستيطان وارتكاب مختلفة الجرائم، من جهة أخرى.
النضال الفلسطيني معقد، وهو في شقه الدولي يعمل على تحويل عدوانية إسرائيل من دفاع عن النفس إلى عدوانية، وتحويل النضال الفلسطيني من «إرهاب» إلى نضال تحرري، ومن أجل ذلك من المفروض أن يكون النضال الفلسطيني نضالاً ضد الاستعمار، أي موجهاً ضد الإدارة الأمريكية، من جهة، وغير عرقي أو طائفي، من جهة أخرى، فالنضال الطائفي والعرقي يصب في النهاية في سلة الاستعمار.
على الأرض، هناك تجارب للنضال الفلسطيني يمكن الاستفادة منها، ولكنها غير كافية، ومن الضروري تطويرها نوعياً، حتى الآن، مثلاً، لم يوجه النضال الفلسطيني على الأرض، ضد الاستيطان، أو ضد السور، أو ضد الحواجز، أي لم توجه ضد أدوات الإذلال التي تستخدمها العسكرية الإسرائيلية. من الضروري ألا تشعر هذه أن الشعب الفلسطيني فريسة سهلة، لأنه، متى كان كذلك، لا يستطيع أن يوقف العدوانية ضده عند حد.
ولكن لكي يكون هناك نضال، من الضروري الاقتناع به، ليس النضال مهمة فئة فلسطينية دون أخرى، وليس من جهة أخرى نفياً له من فئة دون أخرى. المطالبة بالوطن الفلسطيني لا معنى لها، إذا لم تترافق بالنضال. ولا معنى للنضال، إذا لم يكن قراراً للشعب الفلسطيني كله. هناك «اجتهاد» يقوم على الاستمرار في مستنقع أوسلو، ليكن. هل يوافق الشعب الفلسطيني كله على ذلك، إن كان لا، فعلى ماذا يوافق؟
لقد ارتكبت القيادات الفلسطينية أخطاءً تاريخية في ثلاثينات القرن الماضي، وفي أربعيناته، وبعدما بدأت م.ت.ف. تتنفس في الهواء الطلق، وتحمل الأمل الفلسطيني، ارتكبت قيادتها الخطأ «الأوسلوي». والكوارث الجديدة التي تحل بالشعب الفلسطيني تجعل الأخطاء مميتة بعد الآن. ومع الآسف يلمس المرء استمرار الأخطاء.
منطقة الشرق الأوسط أصبحت كلها على كف عفريت. لا يرى المرء أحداً في الإدارات العربية يحسب حساباً لما سيجري. الجميع عموماً يتفيؤون ظل الإدارة الأمريكية في انتظار ساعة الحقيقة. الجميع يسهلون عمل الإدارة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين وعمل الإدارة الأمريكية ضد العراق، وربما ضد غير العراق، ويسهلون نهب ثرواتهم وتخريب اقتصاداتهم، ولن ينالوا أجراً على ذلك سوى الاستغناء عنهم في النهاية.
وفي هذا الجو المعتم يعاني الشعب الفلسطيني من العدوانية الإسرائيلية، من جهة، ومن الاغتراب الأوسلوي- الطائفي، من جهة أخرى. وليست معاناته نظرية، وإنما هي معيشية- يومية. لا يعرف الفلسطيني متى يهدم بيته، أو متى يقتل، أو متى يعتقل أو كيف يجتاز حاجزاً أو كيف يحصل على الماء، أو على اللقمة.
معاناة الشرق الأوسط، ومعاناة الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، لا خلاص منها سوى في النضال.
قد ترتكب الأخطاء التاريخية مرات ومرات، وتدفع الشعوب أثمانها، ولكن لابد من أن تتعلم الشعوب من تجاربها، فتدافع عن نفسها الدفاع المجدي، وتتخلص من آلامها.
الالتصاق بالإدارة الأمريكية لن يأتي بنقود لماريا، نضال الشعب الفلسطيني هو الذي يخلصه من معاناته ويعطيه الوطن.