نموذج الأمن العالمي الجديد للعالم متعدد الأقطاب
في سياق المساهمات التي تعالج موضوع العلاقات الروسية الصينية، كتب الباحث والخبير الباكستاني في الشؤون الأوراسية، تاياب بالوش، مقالاً بحثياً تناول فيه هذا الموضوع، مبرزاً أهم ملامح هذه العلاقات وتطورها، لا سيما مع ارتفاع النزعة العسكرية لواشنطن وحلفائها من الدول في شرق آسيا.
برزت الصين على الساحة العالمية كقوة عالمية من خلال قوتها العسكرية، واقتصادها الأسرع نمواً في العالم. ولم تقلّص القيادة الصينية من لعبة واشنطن القذرة لمنع الصين من أن تصبح قوة عالمية فحسب، لكنها أثبتت أيضاً قدرتها على المضي قدماً في عملية التنمية، والتعامل مع الضرر الناشئ من الولايات المتحدة التي تسعى للحفاظ على هيمنتها الدولية.
في المقابل، كان تصميم روسيا على المضي في عملية الدخول إلى الساحة العالمية كقوة عظمى- كما كانت خلال الحقبة السوفييتية- ناجحاً بقيادة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وقد أدركت قيادتا البلدين (روسيا والصين) أن الطريقة الوحيدة لهزيمة العالم أحادي القطب هي من خلال تشكّل مؤسسات عالم جديد متعدد الأقطاب، وتحويل مراكز القوى الدولية نحوها. وفي الواقع، إن الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا هي مقدمة لنظام عالمي جديد يقوم على أساس السلام والتنمية.
في العالم الماضي، احتفل الزعيمان كليهما بالذكرى الـ70 للانتصار المشترك على الفاشية في الحرب العالمية الثانية، من خلال دعوة قادة العالم متعدد الأقطاب إلى الساحة الحمراء والمسيرات العسكرية التي ضمت جيوش هذه الدول، باستثناء الولايات المتحدة والقارة الأوروبية.
وقد أومأت الشراكة الكاملة في الجوانب كلها بين موسكو وبكين إلى استعداد الدولتين للدفاع عن العالم في مواجه اللعبة القذرة التي ترعاها واشنطن، وإلى استعدادهما ليس فقط لتشكيل آلية أمنية مشتركة لأمن العالم متعدد الأقطاب، بل وحتى إلى العمل كفريق واحد ضد عدو مشترك منتشر من البحر الأسود إلى بحر الصين الجنوبي.
ويؤكد النظام العالمي متعدد الأقطاب، بقيادة الصين وروسيا، على الازدهار العالمي من خلال التكامل الإقليمي السلمي. بينما تعمل الولايات المتحدة والدول التابعة لها على منع هذه التعددية القطبية من أن تصبح عالمية، من خلال محاولة تطويق روسيا عبر حلفائها في «الناتو»، واحتواء الصين في آسيا من خلال الشروع في بناء حلف آسيوي شبيه بـ«الناتو». وفي هذا السيناريو الناشئ، يشهد العالم تحولاً جديداً في اللعبة الجيوسياسية.
تستعد تركيا، الدولة العضو في حلف «الناتو»، للانضمام إلى العمل الجيوسياسي الروسي الصيني، كما حسمت الهند من توجهاتها الاستراتيجية، عبر تفعيل نشاطها في مجموعة «بريكس» ومنظمة «شنغهاي» للتعاون. وقد باءت التوقعات السابقة للخبراء والمحللين الذين اعتقدوا بإمكانية انضمام باكستان إلى الفلك الأمريكي.
الرؤية الصينية واستعدادها للحرب
تشير تقارير إعلامية إلى أن الصين قد أوعزت لمواطنيها للاستعداد إلى ما يشبه ظروف حرب عالمية ثالثة. وقد اتخذت هذه الخطوة للحماية الذاتية من قبل القيادة الصينية العليا، لحماية سيادتها بعد حكم ما يسمى بـ«المحكمة الدولية في لاهاي» بشأن النزاع في بحر الصين الجنوبي. ولم ترفض الصين الحكم المتحيز للمحكمة فقط، لكنها تعهدت باتخاذ التدابير اللازمة لحماية مصالحها الإقليمية والطرق البحرية. وهكذا، عرض الرئيس الصيني، شي جين بينغ، رؤيته، كاشفاً عن طريق الحرير الصيني وتحديث مبادرة «الحزام والطريق»، الهادفة إلى ربط العالم كله بجسور برية وطرق بحرية.
وبعد هذا الإعلان، عجّلت الولايات المتحدة من «حربها الهجينة» ضد الصين بهدف عرقلة طرق التجارة، وذلك من خلال تأجيج النزاعات الإقليمية بين الصين والدول المجاورة لها. ولهذا الغرض، تحاول الولايات المتحدة أن تصيغ بنفسها الاتفاقية الأمنية في آسيا والمحيط الهادئ مع الأنظمة الحاكمة الحالية في اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، في حين أنها منخرطة أيضاً في رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان»، ورابطة أمم جنوب آسيا «سارك».
في الواقع، تعمل واشنطن على تشكيل مشروع مماثل لـ«الناتو» في آسيا موجه ضد الصين، ولكن هذا لا يعني أن هذا العمل المناهض للصين سوف يتمتع بأي نجاح، لأنه سيجلب الدمار والحرب على العالم، بينما على الجانب الآخر، لدى الصين القدرة على تقديم تنمية جذابة جداً، وتكامل إقليمي يهدف إلى حل النزاعات الإقليمية كافة.
روسيا كـ«حكم» في آسيا
استعادت روسيا وضعها كدولة عظمى في العالم، وهو الوضع الذي اختفى منذ تفكك الاتحاد السوفييتي. كما أن النجاحات الروسية في سورية، تثبت أن الدولة مستعدة للقتال من أجل السلام العالمي. وفي الواقع، أصبحت روسيا رمزاً للمقاومة ضد الهيمنة القطبية الأحادية، لأنها هي الدولة الوحيدة الجدية حتى الرمق الأخير في مواجهة العالم أحادي القطب، وبناء عالم متعدد الأقطاب قادر على هزيمة الولايات المتحدة و«الناتو». ولذلك، فإن الولايات المتحدة تصوّر روسيا على أنها أكبر تهديد للأمن الأوروبي، وتعمل جاهدة لتطويق روسيا بقوات «الناتو».
الآن، أصبحت روسيا واحدة من أكبر الدول التي تملك تجارة وشركاء استراتيجيين في آسيا. وفي الواقع، عملت الدبلوماسية الروسية على إشراك الدول الآسيوية في تحقيق مشروع «أوراسيا الكبرى». ومؤخراً، خلال القمة الروسية مع «آسيان» في مدينة سوتشي، أظهرت رابطة دول جنوب شرق آسيا اهتمامها بالتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا، في حين اقترحت روسيا أيضاً علاقات اقتصادية واستراتيجية أوثق بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي و«آسيان» ومنظمة «شنغهاي» للتعاون.
إن المشاركة الروسية واسعة النطاق مع دول آسيا يضمن لها فعلياً لعب دور «الوسيط» في حل النزاعات والخلافات الإقليمية. كما تلعب روسيا دورها المطلوب للحد من النزاع بين الصين وفيتنام، وبين الصين والهند، من خلال منصة «بريكس» ومنظمة «شنغهاي» للتعاون في حل النزاعات الحدودية. وتحت مظلة منظمة «شنغهاي» للتعاون، لدى باكستان والهند الفرصة لحل الصراعات من خلال التكامل السلمي.
السيطرة الروسية على حلقة النار في المحيط الهادئ
بعد أن أدركت التهديد الأمريكي الذي يطال الصين بشأن النزاع في بحر الصين الجنوبي، قررت روسيا تعزيز حضور قواتها العسكرية بالقرب من البر الرئيسي لليابان، حول جزر الكوريل (المتنازع عليها بين روسيا واليابان) التي تعرف أيضاً باسم «حلقة النار» نظراً لطبيعتها البركانية. كما تخطط روسيا لإنشاء أسطول المحيط الهادئ في محيط جزر الكوريل.
في الحقيقة، إن العسكرة اليابانية الجديدة التي ترعاها واشنطن في ظل قيادة حكومة شينزو آبي، هي السبب الرئيسي وراء التراكم العسكري الذي ينجزه الجيش الروسي في جزر الكوريل، حيث وافق النظام الحاكم في اليابان بدفع الفواتير الأمريكية عبر سماحه للجيش الياباني بالمشاركة في القتال خارج البلاد. وبعبارة أخرى، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، يمكن للجيش الياباني أن يشارك في العمليات الخارجية، أي الحروب التي يخوضها حلف «الناتو» على سبيل المثال، وبشكل خاص في الحروب التي من المتوقع أن يخوضها الحلف الآسيوي الشبيه بـ«الناتو».
الأمن متعدد الأقطاب في آسيا والمحيط الهادئ
تعمل روسيا والصين على بناء إطار أمني للعالم متعدد الأقطاب، وآليات جديدة للعلاقات الدولية، تشمل التعاون المربح للجانبين، من خلال مواجهة مشروع «شريعة الغاب» الذي فرضته الولايات المتحدة و«الناتو» على العالم.
ببساطة، تقوم روسيا والصين بخلق نافذة جديدة من الفرص للعالم أجمع، من خلال إمساكها بزمام الربط بين مشروع «أوراسيا الكبرى» و«طريق الحرير الصيني» الجديد. ولذلك، فإنها تعمل على صياغة مستقبل العالم الجديد، من خلال توسيع وتعزيز المؤسسات متعددة القطبية، أي «بريكس»، ومنظمة «شنغهاي» للتعاون، و«البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية»، والتي ستشكّل فعلياً بدائل لمؤسسات القطب الواحد كـ«صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي»، وحلف «الناتو»، وبنك التنمية الآسيوي.
في الواقع، قرّبت استراتيجية الحرب الهجينة العالمية التي تقودها الولايات المتحدة ضد طريق الحرير الصيني الجديد والاتحاد الأوراسي، روسيا والصين من بعضهما البعض، ودفعتهما إلى إنشاء نظام أمني بديل، مقاوم لعقلية الحرب الباردة التي تتمتع فيها واشنطن و«الناتو». وقد وعدت كل من موسكو وبكين بتغطية ظهر كل منهما من البحر الأسود إلى بحر الصين الجنوبي، عن طريق صياغة آليات أمنية مشتركة.