العراق: خمس عجاف واحتلال منهك
بعد سنوات من الحصار والعمليات العدوانية العسكرية المحدودة والموسعة، تحت مسميات ثعلبية مختلفة، والتي اُستخدمت فيها الأسلحة المحرمة دولياً بما فيها قذائف اليورانيوم المنضب التي قتلت وشوهت وشلت مستقبل الكثير من أطفال العراق.. وبعد أشهر طويلة من القصف التمهيدي في مجلس الأمن الدولي ووسائل الإعلام الدولية الكبرى، بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها في 19 آذار 2003 اجتياحها للأراضي العراقية تحت ذريعة تفكيك برنامج أسلحة الدمار الشامل العراقي وهي الحجة التي ثبت بطلانها وانعكست لاحقاً باستقالات وانتكاسات انتخابية لدى قادة وزعماء الدول التي روجتها دون أن يطال ذلك حقيقة احتلال العراق مع كل ما للكلمة من منعكسات على الحياة اليومية للشعب العراقي ومعاناته.
في الرابع من نيسان من العام ذاته وصلت قوات الغزو الأمريكي إلى مشارف بغداد وفي الثامن منه لجأت إلى قصف الصحفيين في مقرات إقاماتهم لاغتيال شهود الحقيقة وللتحكم فيما بعد بطبيعة المعلومات المقننة الخارجة عبر فلتر رقابة الاحتلال من العراق.
وبخطط مبيتة ومدروسة سلفاً كان أول ما لجأ إليه الاحتلال بعد التاسع من نيسان من العام ذاته هو تفكيك جهاز الدولة العراقية مع حل الوزارات والأجهزة العسكرية والأمنية العراقية السابقة بهدف تفكيك جملة الأدوات التي تنظم حياة ومصالح وشؤون المواطن العراقي العادي من أجل دق أول اسفين في العودة بالشعب العراقي إلى مكونات ما قبل الدولة الوطنية نحو العشائرية والقبلية والطائفية كحاضنة تستلهم تجربة التفتيت البلقانية.
الاستثناء الوحيد الذي حظي بالاهتمام والرعاية الأمنية الأمريكية المكثفة كانت وزارة النفط العراقية بما سلط الضوء منذ الأيام الأولى على جانب أساسي من الأهداف الأمريكية لهذه الحرب العدوانية.
وكانت ثاني خطوة لافتة لجأ إليها المحتل هي سرقة المتاحف العراقية ولاسيما متحف بغداد بهدف واضح يبتغي النيل من الذاكرة الوطنية العراقية ونسفها بوصفها أحد خطوط الدفاع عن السيادة الوطنية واحد مصادر الكبرياء العراقي ومن أجل الانتقام من التاريخ انتصاراً للأوهام الصهيونية التي عمل ذراعها الضاربة الموساد من ضمن أجهزة استخبارية أخرى انتشرت كالفطر في عراق ما تحت الاحتلال تحت دعوى تقديم الخدمات والاستشارات الأمنية، عمل على تصفية العدد الأكبر من الكفاءات الأكاديمية والعلمية العراقية من مختلف الاختصاصات حيث تتحدث الأرقام عن قتل 350 عالم نووي عراقي و200 أستاذ جامعي في اختصاصات نادرة.. والهدف واضح!
من العراق وتحت غطاء إعلامي مكثف من المحطات الأمريكية والناطقة بالعربية بمضمون أمريكي بدأ التداول والترويج الموسع للمصطلحات والمفردات الطائفية لتعميمها في المنطقة العربية كنزاعات جرى اصطناعها بعد النفخ فيها تطبيقا للشرق الأوسط الجديد أو الكبير، لا فرق.. فالأول طرحه باول منذ 2002 والثاني تعيد التبشير به خلفه رايس مراراَ وتكراراً..
بضغط وتدخل مباشر من واشنطن جرى اتخاذ جملة من الإجراءات الرئيسية على طريق محاولة تقسيم العراق وتكريس ذلك على أرض الواقع السياسي للمنطقة العربية، وكان من ابرز هذه الخطوات:
ممارسة الضغط والتدخل المباشر في صياغة الدستور العراقي الجديد الذي يمهد الطريق لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام على الأقل ويطرح تقاسم الثروات فيه ليس على أساس دولة مواطنين وإنما على أساس مكونات عرقية وطائفية.
قانون النفط والغاز، الذي يقونن حسب المعترضين العراقيين أنفسهم نهب الشركات الاحتكارية الدولية وفي مقدمتها الأمريكية بالطبع للثروة العراقية وكنس كل المكتسبات التي جنتها الشرائح الفقيرة العراقية ويسرق ليس فقط واقع المواطن العراقي الحالي وإنما يستولي على أرصدة الأجيال العراقية اللاحقة كما أنه يمهد لتنازع المصالح بين الأجزاء المكونة لما تسميه واشنطن بالعراق الجديد ومرة أخرى ليس على الأساس الوطني وإنما العرقي والطائفي، وهو في كل الأحوال يترك هؤلاء يختلفون على الحصة العراقية التي تخرج منها تكاليف المعدات والصيانة في حين تأخذ الشركات الدولية كامل حصتها التي تقترب مما نسبته خمسين بالمئة من صافي الأرباح تحت مسمى «عقود التخديم».
أما ثالثة الأثافي فهي نقل مفهوم التقسيم إلى داخل المدن العراقية بجدران أسمنتية فاصلة تستوحي التجربة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبرز ذلك في العاصمة بغداد تحديداً تحت ذرائع أمنية يزيد من التضليل بخصوصها رسم اللوحات على جانبي جدران العزل الطائفي لتجميل قبول زرع الشقاق في صفوف الشعب الواحد.
جاءت الولايات المتحدة إلى العراق تحت شعار إضافي طنّان تحدث عن نشر الديمقراطية فيه فكانت النتيجة بالتساوق مع كل ما سبق نشر ديمقراطية الموت بالقصف والقتل على الحواجز وانتشار عصابات القتل الطائفي المجاني في ظل «الفوضى الخلاقة» الناجمة عن الاحتلال وتطبيق مقولات منظريه وممثليه السياسيين... لتصبح معادلة التخفيض القسري لعدد سكان العراق تقول: من لا يقضي برصاص الاحتلال وقذائفه يقضي بالمفخخات المتحركة في المدن والشوارع العراقية والتي أكد أكثر من مصدر من الداخل العراقي أن القسم الأكبر من متفجرات تلك المفخخات ولاسيما في السنوات الأولى للغزو، وكلما دعت حاجة الترويع الأمريكية حتى الآن، كان يزرعه جنود الاحتلال أنفسهم في عينات عشوائية من السيارات العراقية على حواجز التفتيش لتمضي السيارة المفترضة بمؤقتها الزمني وتنفجر في نقطة يجري تقديرها بعد سؤال السائق عن وجهته، فتحضر قوات الاحتلال إلى المكان لتكون قاتل القتيل دون أن تمشي في جنازته.
وتحت يافطة استهداف «القاعدة» ومثيلاتها من العناصر المشبوهة، التي تشوه صورة من يستهدف الوجود العسكري الأمريكي في العراق، تنفيذاً لحق مشروع تكفله الشرائع السماوية والدولية، قامت قوات الاحتلال بقتل مئات آلاف العراقيين وإصابة وتشريد أمثالهم، ودك منازلهم ومحالهم التجارية وسياراتهم ومصادر رزقهم وحتى دور عبادتهم في حملات قصف جوي ومدفعي مكثف وعلى مراحل وبعمليات تحمل أرقاماً وأسماءً وغطى ذلك على سبيل المثال لا الحصر الفلوجة وتلعفر والموصل وبعقوبة شمالاً إلى جانب المحمودية والديوانية والنجف جنوباً، ومن ينسى الصور التي تسربت حول تصفية جنود الاحتلال للجرحى العزل داخل أحد مساجد الفلوجة...
ومثلما كانت تغطي قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية كل جرائم قواتها بحق العراقيين بأنها تصرفات فردية وتنظم لذلك محاكمات صورية تنتهي في الغالبية المطلقة إما بالبراءة أو بالتسريح بعد تخفيض الرتبة فإن الأنكى هو تقديم الاعتذار لسقوط المدنيين في الغارات الأمريكية تحت عنوان «الخطأ البشري» الذي لم يوفر حتى عناصر الأمن المشكلين بإشراف وتسليح أمريكي باسم مجالس الصحوة، والنتيجة في كل الحالات، وسواء باعتذار أو غالباً بدونه، هي سقوط المزيد من الضحايا العراقيين.
وبالمثل كانت تستطيل معاناة العراقيين ممن بقوا فوق التراب:
الإبعاد القسري والتعذيب ما فوق طاقة البشر خلف زنازين الاحتلال وصولاً للموت في ابو غريب وموكا وغيرهما من السجون والمعتقلات تحت الإدارة أو الإشراف الأمريكي.
نقص الكهرباء والوقود في بلد رئيسي لإنتاج النفط في العالم بات ظاهرة مألوفة
شظف العيش وعدم إمكانية الوصول للمياه النظيفة بواقع ثلاثة من أصل كل أربعة عراقيين، وانتشار الأمراض ونقص الأدوية والتشوهات الولادية الناتجة عن المواد السامة في القذائف الأمريكية التي غطت أرض الرافدين بات ظاهرة مماثلة.
ومن الطبيعي أن يمهد كل ذلك لانتشار واسع لظاهرة التسول من ضمن جملة طويلة من أمراض اجتماعية أخرى وسط أرقام متفائلة أكثر من الواقع المزري تقول إن أربعة من أصل كل عشرة عراقيين يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم وهو أدنى حدود الفقر بالمقاييس الدولية.
وتراوغ الإدارة الأمريكية حالياً في بحث وشرعنة تثبيت الوجود الأمريكي في العراق وإطالة أمده قبل انتهاء مهلة الأمم المتحدة في نهاية العام الجاري وذلك بعد تنفيذ سلسلة من التكتيكات الخاصة بإعادة نشر قواتها وسحبها من مراكز المدن العراقية حيث تتكبد الخسائر المتلاحقة باتجاه القواعد العسكرية لتفعيلها عندما تستدعي ضرورات واشنطن في تنفيذ تهديداتها المأزومة توسيعاً لرقعة عدوانها في المنطقة بما يؤكد أن واشنطن وتل أبيب هما المسؤولان الرئيسيان عن حالة عدم الاستقرار فيها.
ولا يشكل مرشحو الرئاسة الأمريكية من جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء استثناءً جوهرياً في ذلك فمنهم من يطرح ضرورة البقاء إلى ما شاء «وحي بوش» السماوي ومنهم من يتحدث عن انسحاب تدريجي. والثابت أنه بينما يتحدث مرشحو الديمقراطيين من باب الدعاية الانتخابية عن عام 2009 موعداً للانسحاب يتحدث الحزب الديمقراطي ككل عن عام 2012 موعداً افتراضياً لذلك.
والمفارقة مرة ثانية أن بوش الجمهوري الذي طرح في أيار 2005 مقولته الشهيرة «أنجزت المهمة» يقول إن العراق بلد ذو سيادة في وقت ما تزال فيه قوات احتلاله، التي ستبلغ في كل الأحوال 140 ألفاً في تموز المقبل بعد «التخفيضات»، ترتكب الجرائم والمجازر بحق الشعب العراقي، وتتلكأ عمداً في التحجج بعدم جاهزية القوات العراقية لتولي المهام الأمنية كاملة في العراق وهي المسؤولة عن تدريبها وتأهيلها وتجهيزها لتلك المهمة افتراضاً.
غير أن الشعب العراقي ومن خلال وعيه وتمسكه بوحدته الوطنية ما يزال يشكل العائق الرئيسي أمام مرور مشروع التقسيم الأمريكي للعراق بما يشكل بدوره أحد أهم عوامل إفشال المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة يضاف إليه جملة من العوائق الناجمة يومياً عن الغرق الأمريكي المتواصل في المستنقع العراقي وليس أقلها حالات التمرد والفرار من الخدمة والصعوبات التي تواجهها الإدارة الأمريكية في تجنيد الشباب الأمريكي لزجهم كقطع حطب داخل موقد حروب المصالح الاحتكارية التي تمثلها الإدارات الأمريكية المتلاحقة، استهتاراً حتى بنداءات عائلات الجنود القتلى واستنكار دافعي الضرائب الأمريكيين لحرب تجاوزت تكلفتها بالأرقام الأمريكية المعلنة 400 مليار دولار، دون أن يدخل في حساب ذلك ما يدفعه المواطن العراقي والعربي من لقمة عيشه ونفطه وحياة أطفاله وأمنهم وأمانهم.
• ملاحظة: هذه المادة هي مجتزآت مطولة من تقرير موسع بثه التلفزيون العربي السوري